Skip to main content

المسيح في الإسلام الشعبي

المسيح في الإسلام الشعبي أو كما يراه الصوفيون

بعد أن درسنا الأحاديث الصحيحة التي تحدثنا عن المسيح وتطلعنا على كيفية ولادته ومجيئه ثانيةً، نريد الآن أن ننقل عدداً من الآثار الموضوعة التي تُعزى إلى محمد مباشرة، أو إلى المسيح نفسه، كما وردت في المصادر الصوفية. فبما أن الأحاديث الصحيحة تتناول في أغلب الأحيان المواضيع التشريعية ولا يتيسر فهمها لعامة الشعب لأسباب لغوية، فقد صار أدب الخرافات أو ما يروى على لسان محمد من أحاديث مختلقَة ذا تأثير قوي وانتشار واسع في أوساط الشعب، ولعب دوراً أساسياً في تشكيل ما يُسمى بالإسلام الشعبي. تحوي هذه المجموعات أساطير وخرافات عن المسيح، وكثيراً ما تحمل نوايا تربوية وتهذيبية. أما ما يميّز تلك الخرافات عن سائر الأحاديث فهو محتواها الصوفي الذي يدلنا على مؤلفيها. يظهر المسيح في تلك الأخبار كزعيم أو قطب الدراويش المتَّقين بكونه خاتم الولاية بجانب محمد خاتم الأنبياء أو خاتم النبوة. إنه يستطيع القيام بالمستحيل لدى الناس, قال مالك بن أنس: بلغني أن امرأتين أتتا عيسى عليه السلام فقالتا: يا روح الله، ادعُ الله لنا أن يخرِج لنا أبانا فإنه هلك ونحن غائبتان عنه. قال: أتعرفان قبره؟ فقالتا: نعم. فذهب معهما فأتيا قبراً فقالتا: هذا هو. فدعا الله فأخرج لهما، فإذا هو ليس به. فدعا فردَّ. ثم دلتاه على قبر آخر فدعا أن يخرج فخرج، فإذا هو. فلزمتاه وسلمتا عليه. ثم قالتا: يا نبي الله يا معلم الخير، ادع الله أن يبقيه معنا. فقال: وكيف أدعو له ولم يبق له رزق يعيش به؟ ثم ردَّه وانصرف,


(أ) معجزاته:

راج أدب الخرافات والأعاجيب في الأوساط الصوفية والشعبية رواجاً باهراً وصارت تُردد وتُنقل من جيل إلى آخر. نبدأ بالمعجزات لأنها تشكّل نصف الأخبار الموضوعة عن المسيح على أقل تقدير.

قال وهب: كان أول آية رآها الناس من عيسى أن أمه كانت نازلة في دار دهقان من أرض مصر، أنزلها بها يوسف النجار حين ذهب بها إلى مصر. وكانت دار ذلك الدهقان تأوي إليها المساكين. وحدث أن سُرق الدهقان، فحزنت مريم لمصيبته. فلما رأى عيسى حزن أمه لمصيبة صاحب ضيافتها، قال لها: يا أماه، أتحبين أن أدله على ماله؟ قالت: نعم يا بُنيَّ. قال لها: قولي له يجمع المساكين. فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم، أحدهما أعمى والآخر مقعد. فحمل المقعد على عاتق الأعمى وقال له: قم به. فقال الأعمى: أنا أضعف عن ذلك. فقال له عيسى: كيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك ضربوا الأعمى حتى قام. فلما استقل قائماً هوى المقعد إلى كوة الخزانة. فقال عيسى للدهقان: هكذا احتالا على مالك البارحة، لأن الأعمى استعان بقوته والمقعد بعينيه. فقال الأعمى: صدق والله. فردّا على الدهقان ماله كله، فأخذه الدهقان ووضعه في خزانته وقال: يا مريم خذي نصفه، فقالت: إني لم أُخلق لذلك. قال الدهقان: فأعطيه لابنك، قالت: هو أعظم مني شأناً.

ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس لابن له فصنع له عيداً، فجمع عليه أهل مصر كلهم فكان يطعمهم شهرين. فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام ولم يعلم الدهقان بهم حتى نزلوا به وليس عنده يومئذ شراب، وكانت كل جراره خاوية. فلما رأى عيسى مرَّر يده على أفواهها وهو يمشي فكلما أمر يده على جرة امتلأت شراباً حتى أتى عيسى على آخرها وهو يومئذٍ ابن اثنتي عشرة سنة,

قال وهب: بينما عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبي فوكزه برجله فقتله، فألقاه بين يدي عيسى وهو ملطخ بالدم، فاطلع الناس عليه فاتهموه به فأخذوه وانطلقوا به إلى قاضي مصر فقالوا له: هذا قتل هذا. فسأله القاضي، فقال عيسى: لا أدري من قتله وما أنا بصاحبه. فأرادوا أن يبطشوا بعيسى عليه السلام فقال لهم: ائتوني بالغلام. فقالوا له: ما تريد به؟ قال: أريد أن أسأله من قتله. قالوا: وكيف يكلمك وهو ميت؟ فأخذوه وأتوا به إلى مقتل الغلام. فأقبل عيسى على الدعاء فأحياه الله تعالى فقال له عيسى: من قتلك؟ قال: قتلني فلان (على الذي قتله).فقال بنو إسرائيل: مَن هذا؟ قال: هذا عيسى ابن مريم. قالوا: فمن هذا الذي معه؟ قال: قاضي بني إسرائيل. ثم مات الغلام من ساعته.

فرجع عيسى إلى أمه وتبعه خلق كثير من الناس فقالت له أمه: يا بنيَّ، ألم أنهك عن هذا؟ فقال: إن الله حافظنا وهو أرحم الراحمين,

ويقولون: إن عيسى لما أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه المعلم، قال له المعلم: اكتب بسم الله فقال له عيسى عليه السلام: ما بسم الله؟ قال المعلم: لا أدري. فقال له: باء بهاء الله، سين سناؤه، ميم ملكه، والله إله الآلهة والرحمان رحمان الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة. أبجد: الألف ألاء الله، الباء بهاء الله، جيم جمال الله، دال الله دائم. هوز: الهاء الهاوية، الواو ويل لأهل النار، الزاي واد في جهنم. وحطي: الحاء الله الحكيم، الطاء الله الطالب لكل حق حتى يؤديه، والياء آي أهل النار وهو الوجع. كلمن: كافن الله الكافي، لام الله العليم، ميم الله الملك، نون البحر. سعفص: سين الله السميع، والعين الله العالم، والفاء الله الفرد، وصاد الله الصمد. قرشت: قاف الجبل المحيط بالدنيا الذي أخضرت منه السموات، والراء رأي الناس لها، والشين شيء لله، والتاء تمت أبداً.

وروي في الخبر أن عيسى عليه الصلاة والسلام مرَّ بقرية فيها جبل، وفي الجبل بكاء وانتحاب كثير. فقال لأهل القرية: ما هذا البكاء وهذا الانتحاب في هذا الجبل؟ قالوا: يا عيسى منذ سكنا هذه القرية نسمع هذه البكاء. وهذا الانتحاب بهذا الجبل. فقال عيسى عليه السلام: يا رب ائذن لهذا الجبل أن يكلمني. فأنطق الله الجبل فقال: يا عيسى أنا الجبل الذي كانت تُنحت مني الأصنام التي يعبدونها دون الله فأخاف أن يلقيني الله تعالى في نار جهنم. فإني سمعت الله يقول: واتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة. فأوحى الله إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن قُل للجبل اسكن فإني قد أعذته من جهنم,

روي عن عيسى عليه السلام أنه دخل على نار توقدت على رجل في البرية فأخذ عيسى ماء ليطفئها عنه فانقلبت النار غلاماً وانقلب الرجلناراً. فبكى عيسى عليه السلام وقال: يا رب ردهما إلى حالهما الأول حتى أرى ما ذنبهما. فانكشفت تلك النار عنهما فإذا هما رجل وغلام. فقال الرجل: يا عيسى أنا قد كنت في دار الدنيا مبتلى بحب هذا الغلام، فحملتني الشهوة إلى أن فعلت به ليلة الجمعة ثم فعلت به يوماً آخر، فدخلعلينا رجل فقال لنا: يا ويلكم! اتقوا الله. فقلت له: أنا لا أخاف ولا أتقي. فلما مت ومات الغلام صيَّرنا الله عز وجل إلى ما ترى. يصير ناراً فيحرقني مرة، ومرة أصير ناراً فأحرقه. فهذا عذابنا إلى يوم القيامة,

قال كعب الأحبار: إن عيسى عليه السلام مر ذات يوم بوادي القيامة وهي عشية يوم الجمعة عند العصر، فإذا بجمجمة بيضاء نخرة قد مات صاحبها منذ أربع وتسعين سنة، فوقف عليها متعجباً منها وقال: يا رب ائذن لهذه الجمجمة أن تكلمني بلسان حتى تخبرني ماذا لقيت من العذاب وكم أتى عليها منذ ماتت وماذا عاينت وبأي هيئة ماتت وماذا كانت تعبد. قال: فأتاه نداء من السماء فقال: يا روحَ الله وكلمتَه، سَلْها فإنها ستخبرك. فصلى عيسى ركعتين، ثم دنا منها فوضع يده عليها، فقال عيسى: أيتها الجمجمة النخرة. قالت: لبيك وسعديك، سلني عما بدا لك. قال: كم أتى عليك مذ مت؟ قالت: ما نفس بعد الحياة ولا روح تحصي السنين. فأتاه نداء أنها قد ماتت منذ أربع وتسعين سنة فسلها. قال: فبماذا مت؟ قالت: كنت جالسة ذات يوم إذ أتاني مثل السهم من السماء فدخل جوفي مثل الحريق، وكان مثلي مثل رجل دخل الحمام فأصابه حره فهو يلتمس الروح مخافة على نفسه بأن تهلك. قال فأتاني ملك الموت ومعه أعوان وجوههم مثل وجوه الكلاب بادية أنيابهم زرق أعينهم كلهبان النار، بأيديهم المقامع يضربون وجهي ودبري فانتزعوا روحي فكشطوها عني. ثم وضعها ملك الموت على جمرة من جمار جهنم ثم لفها في قطع مسح من مسوح جهنم فرفعوا روحي إلى السماء فمنعتهم السماء أن يدخل وأغلقت الأبواب دونها. فأتاني نداء أن ردوا هذه النفس الخاطئة إلى مثواها ومأواها,

عن كعب الأحبار قال: مرَّ عيسى بجمجمة بيضاء فقال: يا رب هذه الجمجمة أحيِها. فأوحى الله تعالى أن أشِح بوجهك. ففعل. ثم حّوَل وجهه فإذا شيخ متكئ على كارة من بقل فقال: يا عبد الله سل على حتى ألحق بالسوق. قال: وما شأنك؟ قال: قلعت هذا البقل من هذه المبقلة وغسلته في هذا النهر وغلبتني عيني. قال وخيل إليه ما كان فيه. قال فسأله عيسى عليه السلام عن القوم الذي هو منهم، فإذا بين المسيح وأولئك خمسمائة عام, رُوي أن عيسى عليه السلام مر بجمجمة فضربها برجله فقال: تكلمي بإذن الله. فقالت: يا روح أنا ملك زمان وكذا وكذا. بينما أنا جالس في مُلكي عليَّ تاجي وحولي جنودي وحشمي على سرير ملكي إذ بدا لي ملك الموت، فزال مني كل عضو على حياله ثم خرجت نفسي إليه، فيا ليت ما كان من تلك الجموع كان فرقة، ويا ليت ما كان من ذلك الأنس كان وحشة, فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد,

وهناك روايات تحمل مسحة النص الإنجيلي: رُوي عن عيسى أنه قال: ماذا يُغني عن الأعمى حمل السراج ويستضيء به غيره؟ وماذا يغني عن البيت المظلم أن يكون السراج على ظهره؟ وماذا يغني عنكم أن تتكلموا بالحكمة وما تعملون بها,

وهذه الروايات الصوفية تنقل لنا مواعظ المسيح باعتباره واعظاً صوفياً ينفّر الناس من الدنيا ويدعوهم إلى الزُّهد. قال المسيح: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمّروها. قالوا: يا نبي الله، إنا نريد أن نبني بيتاً نجتمع فيه لنعبد ونتدارس، فاختر لنا موضعاً نبني فيه. فقال: تعالوا. فمشوا معه فوقف على قنطرة وهي مدرجة للناس لا يدَعونا فيها. كذلك الدنيا مدرجة للموتى وأنتم تبنون عليها ولا يدَعونكم فيها. قيل لعيسى علِّمنا عِلماً شيئاً واحداً يحبنا الله عليه. قال: أبغضوا الدنيا يحبكم الله, قال الحواريون: يا روح الله نحن نصلي ونصوم ونذكر الله تعالى كما أمرتَنا ولانقدر أن نمشي على الماء كما تمشي أنت. قال: أَخبروني كيف حبكم للدنيا. قالوا: إنا لنحبها. فقال: إن حبها يفسد الدين لكنها عندي بمنزلة الحجر والمدر, وقال: ما لكم تأتون ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري. البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية,

وأحياناً تُذكر آيات إنجيلية بصورة حرفية: رأيت في الإنجيل قال عيسى ابن مريم عليه السلام: لقد قيل لكم من قبل إن السنّ بالسن والأنف بالأنف، وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشر بالشر، بل من ضرب خدك الأيمن فحّوِل إليه الخد الأيسر. ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك. ومن سخّرك لتسير معه ميلاً فسِر معه ميلين,


(ب) نزول عيسى في آخر الزمان:

كما هو الحال في الأحاديث الصحيحة، كذلك تجد في تعاليم الصوفية أخباراً تطلعنا على مجيء المسيح ثانية وما سيحدث بعد مجيئه. فإن المسيح يظهر في تلك الأخبار كعلم الساعة!, غير أنه لا يعرف متى الساعة. يذكرنا الحوار الغريب بين المسيح وجبريل، والذي ورد في مؤلف للإمام الشعراني بسؤال محمد جبريل في حديث القدر الشهير: روي عن الشعبي قال: لقي جبريل عيسى عليهما السلام فقال له عيسى: متى الساعة؟ فانتفض جبريل في أجنحته وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة, إن المسيح الذي سيأتي لكي يعاقب الكفَّار ويجازي الصالحين خيراً سوف يختار بين المسلمين طائفة الغرباء النافرين عن الدنيا: قال رسول الله: أحب شيء إلى الله تعالى الغرباء. قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرّارون بدينهم يبعثهم الله تعالى يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه السلام, روي عن محمد أيضاً: ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها,

لقد حوَّل الوضاعون المسيح إلى مسلم مثالي يصلي ويحج: ويهبط عيسى ابن مريم فيصلي الصلوات ويجمع الجمع ويزيد في الحلال كأني به تجدبه رواجله ببطيء الروحاء حاجاً أو معتمراً, بينما يصعب علينا أحياناً أن نميِّز المسيح من المهدي في الأحاديث الصحيحة، ويبدو كلاهما في بعض الروايات كأنهما شخص واحد. يخبرنا الوضاعون بأن المهدي من أهل بيت محمد: المهدي من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً، وإنه يخرج مع عيسى عليه الصلاة والسلام يساعده على قتل الدجال بباب لد من أرض فلسطين وإنه يؤم هذه الأمة ويصلي خلفه عيسى ابن مريم,


(ج) عيسى كمجدد للشريعة الإسلامية:

نقل الإمام الشعراني: قال العلماء إنه إذا نزل عيسى في آخر الزمان يكون مقرراً لشريعة محمد ومجدداً لها، لأنه لا نبي بعد رسول الله يحكم بشريعة غير شريعة محمد، لأنها آخر الشرائع ونبيّها آخر النبيين. فيكون عيسى حكماً مقسطاً لأنه لا سلطان يومئذ للمسلمين ولا إماماً ولا قاضياً ولا مفتياً، وقد قبض الله العلم وخلا الناس منه فينزل وقد علم بأمر الله تعالى من السماء قبل أن ينزل ما يحتاج إليه من أمر هذه الشريعة ليحكم به بين الناس وليعمل به في نفسه ليجتمع المؤمنون عند ذلك ويحكمونهم على أنفسهم ولا أحد ليحكم به بين الناس وليعمل به في نفسه ليجتمع المؤمنون عند ذلك ويحكمونهم على أنفسهم ولا أحد يصلح لذلك غيره، لأن تعطيل الحكم غير جائز، وأيضاً فإن بقاء الدنيا إنما يكون بالتكليف، فلا يزال التكليف قائماً إلى أن لا يبقى على وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله, إن المسيح كما يصوره الوضاعون ليس الإمام والحكم المقسط ولا مجدد الشريعة فحسب، بل هو فقيه متبحر يدرس القرآن مطلع على أسراره وحكمه التشريعية: إن عيسى ينظر في القرآن فيفهم منه جميع الأحكام المتعلقة بهذه الشريعة من غير احتياج إلى مراجعة الأحاديث كما فهم النبي عليه الصلاة والسلام من القرآن العزيز, نقرأ في رواية أخرى أن عيسى سوف يتعلم ما يحتاج إليه من أمر الشريعة من محمد نفسه: إن النبي في حياته كان يرى الأنبياء أحياء يصلون26,فكذلك إذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض يرى الأنبياء ويجتمع بهم ومن جملتهم النبي عليه السلام فيأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شريعته, يقول المحدثون كان من الطبيعي أن يجعله العلماء صحابياً إذ يقول الذهبي إن عيسى ابن مريم عليه السلام نبي وصحابي، فإنه رأى النبي وسلّم عليه، فهو آخر الصحابة موتاً,

وتُظهر الفتوى التي كتبها السيوطي رداً على سؤال عن المذهب الفقهي الذي سيتبعه عيسى في تطبيق الشريعة مدى ما يمكن أن يمتد الخيال إليه لدى الوضّاعين والصوفيين. بعد أن حسم بأن عيسى سيحكم بالشريعة الإسلامية دون الشرائع الأخرى، يقول السيوطي: وقول القائل: إذا قلتم إنه يحكم بشرع نبينا فكيف حكمه به؟ هل بمذهب من المذاهب الأربعة المتقررة أو باجتهاد منه؟.. هذا السؤال أعجب من سائله. وأشدّ عجباً منه قوله بمذهب من المذاهب الأربعة. فهل خطر ببال السائل أن المذاهب من هذه الشريعة منحصرة في أربعة مذاهب؟.. كيف يقلّد نبي مذهباً من المذاهب والعلماء يقولون: إن المجتهد لا يقلد مجتهداً. فإذا كان هذا المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد، فكيف يظن بالنبي بأنه يقلد؟ فإن قلت: يتعين حينئذ القول بأنه يحكم بالاجتهاد. قلت: لا، لم يتعين ذلك، فإن النبي كان يتكلم بما أُوحي إليه ولا يسمى ذلك اجتهاداً كما لا يسمى تقليداً. والدليل على ذلك أن العلماء حكوا خلافاً في جواز الاجتهاد للنبي. فلو كان حكمه بما يفهم من الغرض لا يسمى اجتهاداً. يبدو أن العلماء أجمعوا على أن عيسى يحكم بما ورد في القرآن من أحكام تشريعية كنبي أو يكون صحابياً رأى النبي!


(د) وفاة عيسى:

إن ما ورد عن وفاة عيسى من أخبار في المصادر ليست أقل غرابة مما قلنا إلى الآن عن حياته الأرضية ومجيئه الثاني إلى الدنيا: عن أبي هريرة: قال رسول الله: الأنبياء علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، أوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً إنه نازل على أمتي وخليفتي عليهم، فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن رأسه تقطّر ولم يصبه بلل، ينزل بين مخصَّرتين ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ويتزوج ويولد له، ويتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه في المدينة بجنب عمر. اقرأوا إن شئتم: ومن أهل الكتاب إلا ليؤمنن به، قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً (سورة النساء 159) أي قبل موت عيسى, وتخبرنا رواية أخرى عن مدفن عيسى بالتحديد: عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله إني أرى أني أعيش بعدك فتأذن لي أن أُدفن بجنبك؟ فقال: وأين لي بذلك الموضع ما فيه إلا قبري وقبر أبي بكر وعمر وعيسى ابن مريم, وفي رواية: إذا أهبط الله عيسى ابن مريم يعيش في هذه الأمة ما يعيش ثم يموت في مدينتي هذه ويُدفن إلى جانب قبر عمر، فطوبى لأبي بكر وعمر يحشران بين نبيين!,

ونختم بوصية الله لعيسى باتباع وإرضاء محمد كما ورد ذكر ذلك في المصادر الشيعية: أوصيك يا ابن مريم البكر البتول بسيد المرسلين وحبيبي، فهو أحمد صاحب الجمل الأحمر والوجه الأقمر المشرق النور القاهر القلب الشديد البأس.. فإنه رحمة للعالمين، سيد ولد آدم يوم يلقاني، أكرم السابقين عليّ وأقرب المرسلين من العربي الأمي، الديان بديني الصابر في ذاتي المجاهد المشركين ببدنه عن ديني أن تخبر به بني إسرائيل وتأمرهم أن يصدقوا به وأن يؤمنوا به وأن يطيعوه وينصروه.. قال عيسى: إلهي، فمن هو حتى أرضيه فلك الرضى؟ قال: هو محمد رسول الله إلى الناس كافة، أقربهم مني منزلة وأحبهم عندي شفاعة. طوبى له من نبي وطوبى لأمته أن لقوني على سبيله. يحمده أهل الأرض ويستغفر له أهل السماء أمين فيموت طيب مطيب، خير الباقين عندي.. كثير الازدواج قليل الأولاد يسكن مكة موضع أساس إبراهيم,

بعد أن قرأنا تلك الأخبار، الصحيحة منها والموضوعة لدى المحدثين عن عيسى ابن مريم كما يتصوره محمد والوضاعون من الصوفيين، يمكننا القول إن هذه الروايات وإن كانت في الأغلب مجرد خرافات تحمل في طياتها ما يوحي للقارئ بمصدرها الحقيقي، وتدل في معظم الأحيان على أن أصحابها قد اعترفوا بأن عيسى شخصية تفوق سائر البشر، وإن لم يؤمنوا به كمخلصهم الشخصي. غير أن صورة المسيح تبقى في تلك الآثار مشوَّهة وغريبة عن الرسالة الإنجيلية كما هو الحال في القرآن نفسه. فالمسيح كما وصفه محمد والوضاعون هو مسيح الإسلام (أو المسيح المسلم)!

  • عدد الزيارات: 14026