Skip to main content

المادة التاريخية في القرآن - جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية

الصفحة 2 من 2: جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية

جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية، فلم تخضع لمناهج البحث العلمية، إنما كانت مادة موجَّهة تسيطر عليها الأغراض الدينية، فأصبحت مُجَسِّدةً لحياة محمد وأتباعه وقومه، لا لأحداث التاريخ الحقيقية. فسِيَر الأنبياء المذكورين في القرآن ليست حتماً هي أحداث حياتهم بقدر ما هي أحداث الدعوة المحمدية!

والقصص التي جاءت من أجل هذا الغرض كثيرة في القرآن، منها مجموعة القصص التي وردت في سورة هود، حتى لقد علّل البعض أسباب اختلاف قصة لوط في سورة هود عن قصته في سورة الحجر باختلاف الأحداث المتصلة بحياة محمد نفسه. فالقصد من سورة هود هو تثبيت قلب محمد وأتباعه، لذلك عُني القرآن بما نال لوط من أذى، فأبرز حالته النفسية، وقصد أن يوضح عواطفه ويصوّر أفكاره. وهكذا الأمر في كل القصص التي وردت في هذه السورة، مما يتلاءم مع بدايتها وختامها. ففي البداية يقول مصّوِراً نفسية محمد: "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ" (هود 11: 12) ويقول في ختامها: "وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ" (آية 120).

أما القصد من قصة لوط في سورة الحِجر فقد كان لبيان ما ينزل بالمكذّبين من أذى. ومن هنا حرص القرآن على أن يجعل الملائكة تعلن عن نفسها وتخبر لوطاً بما سيحل بالقوم من مصائب وما سينزل عليهم من عذاب. وهو ما يتناسب مع حالة محمد، وقد صرّح به القرآن في ختام سورة الحِجر حين قال: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين" (الحجر 15: 92- 95). فالحرص على العذاب الذي ينزل بأقوام الرسل هو المقصود من القصة، وهو الذي يتلاءم مع ذلك القسم الأخير. فالمقاصد كما ترى هي التي يرمي إليها القرآن، وهي التي تُملي الأسلوب والطريقة، وهي التي من أجلها يسلسل القرآن الأحداث ويربط بينها بربُط العاطفة والوجدان.

وإضافةً على ذلك، فإننا إذا أردنا أن نختار قصةً قرآنية تمثل نفسية محمد وأتباعه في موقفهم مع قومهم، وفي فترة من فترات تاريخية أصدق تمثيل، فلن نجد أقوى ولا أعنف ولا أصدق من قصة نوح كما جاءت في السورة التي تحمل اسمه، فهي تعرض لمشكلات محمد وأتباعه في دعوتهم، وتتمشّى فيها حركة الأسلوب مع حركة العاطفة، وتصوِّر الضيق الذي ألمَّ بمحمد، ثم اتجاهه إلى الله ليخفِّف عنه البلاء وينقذ المؤمنين من جماعة الكافرين الضالة المُضلّة.

تقول السورة: "إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ ا عْبُدُوا ا للَّهَ وَا تَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَا سْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمُ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ ا للَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ا لَقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَا للَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الَأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَا للَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَا تَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَار" (نوح 71: 1-28).

ويصوّر ما ورد في سورة نوح حالة محمدٍ وأتباعِه وصراعَهم مع قومهم. ولو حاول محمدٌ أن يكتب تاريخ دعوته لما أضاف على ما ذكرته هذه السورة شيئاً!!

إن التشابه تامٌ بين حال نوح في القصة وحال محمد. نلحظ ذلك في عناصر الدعوة من عبادة الله وطاعته، كما تلحظه في طريقة الدعوة من حيث الجهر والسرية وفي مقابلة القوم لمحور دعوته بالنفور والفرار، ثم الاستكبار وجَعْل الأصابع في الآذان، ثم في الأشياء التي رغَّب بها في الإيمان، وفي الإعداد بالمال والأنهار، ثم الأشياء التي تُلفِتهم إلى عظمة الله مِن خَلْقهم أطواراً، ومن خلق السموات السبع الطباق، ومِن جَعْل القمر نوراً والشمس سراجاً، ثم في مناجاته لربه تلك المناجاة التي يخبره فيها أنهم اتَّبعوا الأغنياء، ومَن لم يزدهم مالُهم وولدهم إلا خسارة، ثم في تصويره لمكر هؤلاء الأغنياء أو القادة حين طلبوا من قومهم البقاء على ما هم عليه من عبادة الأوثان.

والغريب الذي يدعو للدهشة أسماء الأوثان المذكورة في سورة نوح "وقالوا لا تذرُنّ وَداً ولا سُواعاً ولا يَغوث ويَعوق ونَسْراً" هذه الأوثان التي قالت السورة إن نوحاً كان يحارب قومه في عبادتها، لم تكن أوثان قوم نوح، وإنما كانت أوثان العرب! وهذا يؤكد الاختلاط والازدواج في السرد بين قصة نوح وقصة محمد، فتُسنِد السورةُ لنوحٍ ما كان لمحمد، بصورة تجعلنا لا نستصوب تسمية السورة سورة نوح ولكن سورة محمد !!

الصفحة
  • أنشأ بتاريخ .
  • عدد الزيارات: 6769