في شهادة القرآن للتوراة والانجيل - جلي من القرآن أن الكتاب كان موجوداً بين أهله في زمن محمد
جلي من القرآن أن الكتاب كان موجوداً بين أهله في زمن محمد. ولم يكن كما يزعم اسما بلا مسمى . ولأجل إثبات ذاك نكتفي بقليل من كثير. ففي سورة المائدة آية 71 "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابِئُونَ وَالنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون"َ وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن ابن عباس. قال : جاء رافع وسلام ابن مشكم ومالك ابن الصيف فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا. قال : بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم
بما فيها وكتمتم ما أُمرتم أن تبينوه للناس. قالوا : نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق (أسباب النزول)
فمن هذا يظهر أن محمداً أعلن قبوله للكتب المتداولة بين اليهود. ولو أنه رفض البدع والأحداث التي قال إنهم قد أدخلوها في رسوم ديانتهم الظاهرية، ومن هذا القبيل يوافق قول محمد لقول سيدنا المسيح لليهود في زمنه كما في بشارة متى 23 :16-24 "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ : مَنْ حَلَفَ بِالهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيّهُمَا أَعْظَمُ : أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذهَبَ؟ الخ .
ولكن المهم هنا هو أن هذه الآية ورواية ابن عباس لسبب نزولها تثبتان أن التوراة والإنجيل كانا موجودين عند اليهود والمسيحيين ، وإلا فلا معنى لأمرهم بإقامة الأوامر والنواهي الموجودة بتلك الكتب إن كانت أُعدمت أو تحرَّفت، ففي الحالة الأولى تكون طاعة الأمر غير ممكنة بل مستحيلة. وأما في الثانية فطاعة المحرَّف تُضلهم عن سواء السبيل.
وفي سورة البقرة 2 :113 "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَاب"
ومعنى صيغة قوله (يتلون) إنهم كانوا في ذلك الوقت يتلون التوراة والإنجيل، وهما موجودان بين أيديهم، وإلا كان الواجب استعمال صيغة الماضي دلالة على أنهم تلوه في الماضي فقط. تأمل
وفي سورة يونس 10 :94 "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الخ" وملخص ما حكاه جل المفسرين أن المخاطَب محمد، والمراد أمته وكل سامع وآمر بسؤال أهل الكتاب لأنه محقق عندهم، ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك ، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة فإن القرآن مصدق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أُنزل إليه، أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته كما في البيضاوي وخلافه. فألفاظ هذه الآية تؤكد أن الكتاب المقدس كان موجوداً في زمن مجيء القرآن، وأنه يعترف بصحته، ويثق به وبقرَّائه من اليهود والنصارى. وإلا لما جاز له أن يطلب من محمد أو أمته أو كل سامع أن يسألهم ليتثبَّت الإيمان في قلوبهم ويزول عنهم الشك بشهادة هؤلاء الثقات وكتابهم الموجود الذي لم يُغيَّر ولم يُحرَّف. ولا ريب أنه لم يبق عند القارئ شك بسلامة الكتاب من كل شين إن كان يعتقد بصدق قرآنه المبين .
وقال في سورة الأعراف آية 158مادحاً اليهود "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون"َ وقال البيضاوي على هذه الآية ما ملخصه "ومن بني إسرائيل طائفة يهدون الناس محقين، أو بكلمة الحق وبالحق يعدلون بينهم في الحك"م. والمراد بها : الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، وقيل هم مؤمنو أهل الكتاب.
هذه الآية تشهد أن الكتاب المقدس كان موجوداً بصحته وسلامته من كل تغيير في زمن إتيان القرآن، وكانت أمة موجودة عاملة بأوامره ونواهيه.
وفي سورة آل عمران 3 :23 "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُون"َ وملخص ما قاله البيضاوي أن سبب نزول هذه الآية أن محمداً دخل مدراس اليهود. فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أي دين أنت؟ فقال : على دين إبراهيم. فقال له : إبراهيم كان يهودياً. فقال : هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم. فأبيا. فنزلت. وقال - الكتاب - أي التوراة أو جنس الكتب السماوية - يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم - الداعي محمد وكتاب الله التوراة.
فهذه الآية تبين جلياً أن التوراة كانت في زمن صاحب القرآن، ولثقته بها سماها كتاب الله ، وطلب من خصومه أن تكون حكماً بينهم.
وفي السورة أيضاً آية 93 مع ملخص ما قاله البيضاوي "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لبَنِي إِسْرَائِيلَ - أي حلال لهم- إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ- يعقوب- عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التوْرَاةُ- أي قبل إنزالها- قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين"َ أمر بمحاجتهم وتبكيتهم.
ومع محاولة البيضاوي ومحايدته فالآية تفيد أن التوراة كانت موجودة في زمن محمد بأيدي اليهود. وقوله عقب هذه الآية فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك من بعد ما لزمتهم الحجة "فأولئك هم الظالمون" الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم. وقول البيضاوي أن التوراة كانت عند المدّعي ثقة وحقاً من الله. تأملوفي سورة المائدة آية 46 و 47 مع ملخص تفسير البيضاوي "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ" تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به. والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم (إلى أن قال) وفيها حكم الله حال من التوراة "وما أولئك بالمؤمنين" بكتابهم لإعراضهم عنه وعما يوافقه أو بك وبه "إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى" يهدي إلى الحق "ونور" يكشف ما اشتبه من الأحكام "يحكم بها النبيون" من بني إسرائيل أو موسى ومن بعده "الذين أسلموا" صفة مدح للنبيين الذين هادوا والربانيون والأحبار زهّادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على (النبيون) "بما استحفظوا من كتاب الله" بسبب أمر الله إياهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف "وكانوا عليه شهداء" رقباء لا يتركون أن يغيروا أو شهداء يبينون ما خفي منه.
وملخص مفهوم هاتين الآيتين أنه يتعجب من تحكيم اليهود لصاحب القرآن مع أنهم لا يؤمنون به. والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم وليسوا بمؤمنين به لإعراضهم عن تحكيمها بينهم. والله أنزل التوراة تهدي إلى الحق، وهي نور يكشف ما اشتبه من الأحكام. تحكم بها الأنبياء المسلمون أنفسهم لربانيي اليهود، وتحكم بها أيضاً ربانيوهم وأحبارهم بسبب أمر الله لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف. فلذا هم عليه رقباء، لم يمكّنوا أحداً من تحريفه أو تغييره، فهل هذه الآيات تسمع دعوى التحريف والتغيير للتوراة!؟
- عدد الزيارات: 14909