Skip to main content

سيرة محمد الشخصية - الذنب و الاستغفار

الصفحة 4 من 4: الذنب و الاستغفار

ثالثا : الذنب و الاستغفار
إن الرسول مثال لأمته و للبشرية جمعاء بقداسة السيرة . و قداسة السيرة قد تأتلف مع الهفوات البشرية العابرة . لكنها لا تنسجم مع الاقرار المتواتر بالذنب ، ومع الأمر المتواتر بالاستغفار .
ظاهرة كبرى فى القرآن هى شعور محمد بالذنب . كان يشعر بالذنب فى أول أمره : " ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذى أنقض ظهرك " ( الشرح 1 ) . ووزر ينقض الظهر ليس بالصغير و لا بالحقير ! فسره الزمخشرى : " و الوزر الذى أنقض ظهره مثل لما كان يثقل على رسول الله و يغمه من فرطاته قبل النبوة " . و قال البيضاوى : " ووضعنا عنك وزرك ، أى عبأك الثقيل الذى انقض ظهرك : و هو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة " .
و فى أوج النبوة و الرسالة يزداد الشعور بالذنب ، يقال له : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنوبك و ما تأخر " ( الفتح 1 ) . فإن الذنوب لا تنتهى . جاء فى تفسير ابن عباس : " لكى يغفر لك الله ما سلف من ذنوبك قبل الوحى ، ( و ما تأخر ) ما يكون بعد الوحى الى الموت " . قال الزمخشرى : " يريد جميع ما فرط منك ، و عن مقاتل : ما تقدم فى الجاهلية و ما بعدها . و قيل : ما تقدم من حديث مارية و ما تأخر من امرأة زيد " . و يجمع الجلالان الآيتين فى صورة واحدة تكشف عن نفسية النبى العربى : " ووضعنا عنك وزرك الذى أثقل بالاثم يدل على ضمير حى ، لكنه ، لا يدل على إعجاز فى الشخصية القدسية .
و هناك صورة قاتمة ، حضور الشياطين و همزاتهم للنبى ، " قل : رب اعوذ بك من همزات الشياطين ، و أعوذ بك ، رب ، أن يحضرون " ! ( المؤمنون 97 – 98 ) . إن الأمر بالاستعاذة هو للنبى نفسه : " قل " . و الاستعاذة دليل الأمر الواقع . و هو يفرض هذه الاستعاذة خصوصا فى قراءة القرآن ، خوفا من التبديل فيه : " فإذا قرأت القرآن ، فاستعذ
بالله من الشيطان الرجيم ... و إذا بدلنا آية مكان آية ، و الله أعلم بما ينزل ، قالوا : إنما أنت مفتر ! " ( النحل 98 و 101 ) . و يظهر ان الشيطان يحضر التنزيل و يدس فيه : " و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبى ، إلا اذا تمنى ( قرأ ) ألقى الشيطان فى أمنيته ! فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته ، و الله عليم حكيم " ( الحج 52 ) . و حضور الشيطان قد يكون فى أحداث السيرة : " خذ العفو ، و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين : و إما ينزغنك من الشيطان نزغ ، فاستعذ بالله إنه سميع عليم " ( الاعراف 199 – 200 ) أى " يصرفك عما أمرت به صارف " من الشيطان ( الجلالان ) . و قد تكون ملاحقة الشياطين فى كل أمر : " و لا تستوى الحسنة و لا السيئة : ادفع بالتى هى أحسن ، فإذا الذى بينك و بينه عداوة كأنه ولى حميم . و ما يلقاها ، إلا الذين صبروا ، و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، انه هو السميع العليم " ( فصلت 34 – 36 ) . أى " يصرفك عن الخصلة و غيرها من الخير صارف " ( الجلالان ) . قيل : و كان محمد يصلى كل يوم قبل النوم المعوذتين ليبعد نزغ الشيطان و همزاته . فهذا الهلع الدائم من حضور الشياطين و همزاتهم فى السيرة و الدعوة ، صورة لا توحى بالسلطان عليهم و لا هى دليل على إعجاز الشخصية القدسية .
و يأتى الأمر المتواتر للنبى بالاستغفار ، فيدل دلالة قاطعة على وقوع الذنوب فى سيرة الرسول ، و أن العصمة من الخطيئة أسطورة . فالله يأمر محمدا بالاستغفار من ذنبه مرارا : " فاصبر إن وعد الله حق ، و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشى و الابكار " ( غافر 55 ) . و بما أن الاستغفار و التسبيح مطلوبان كل يوم صباح مساء ، فهذا يدل على الذنب الممكن كل يوم ! و الرسول و المؤمنون سواء فى الذنب و الاستغفار : " و استغفر لذنبك ، و للمؤمنين و المؤمنات " ( محمد 19 ) . علق الاستاذ صبحى الصالح ( 1 ) : " من المعلوم أن العفو لا يكون إلا عن ذنب ، كما أن المغفرة ، إلا بعد ذنب . و قد صرحت الآية بهذا فى سورة الفتح : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر " .
و يختم القرآن الدعوة و السيرة ، فى ذروزة النصر و الفتح بالأمر الدائم بالاستغفار : " إذا جاء نصر الله و الفتح ، و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا : فسبح بحمد ربك
و استغفره ، إنه كان توابا " ( سورة النصر ) . ان محمدا يؤمر بالاستغفار حتى فى نصر الله و الفتح ، لأن فيهما ما يستوجب الاستغفار من الذنوب .
فلم يكن محمد معصوما من الذنوب فى سيرته و تأدية رسالته . و عصمة الرسل إنما هى فى الوحى و التنزيل ، لا فى السيرة و لا فى السريرة ، لا فى القيام بالدعوة ولا فى تأدية الرسالة . و من عصمة الله فى هذا فقد عصمه فوق عصمة الرسل . و هذه العصمة فى السيرة لم ينلها محمد بنص القرآن القاطع ، كما مر بنا .
يقول عبد السمان ( 1 ) : " و الفترة التى قضاها محمد صلعم نبيا رسولا ، كان فيها بجانب النبوة و الرسالة بشرا ، لم يتخلى عنه جانب واحد من جوانب البشرية كلها . كان مرتبطا بالوحى حين يتكلم – فحسب – أما حين لا يتكلم الوحى ، فله تفكيره و له رأيه ، و بجانب ذلك آراء و تفكيرات أتباعه ، يستشيرهم و يعتد بآرائهم فيما لا رأى للوحى فيه .
" و من البلاهة المركزة أن يصر بعض البسطاء من المسلمين ، و من كتاب السيرة ، على أن محمدا كان معصوما خلال فترة نبوته و رسالته من كل كبيرة و صغيرة ، لأن كل حركة و سكنة ، و قول و فعل منه ، انما كان بوحى . و ليس لهؤلاء البلهاء من حجة سوى قوله تعالى : " و ما ينطق عن الهدى ، إن هو إلا وحى يوحى " ... و يجهل هؤلاء أو يتجاهلون ان المقصود من هاتين الآيتين ان الرسول منزه عن الهوى ، و أن ما يتلوه على الناس من قرآن ، ليس من تأليفه ، و انما جاء به الوحى من عند الله ...
" إن محمدا طولب بالاستغفار من ذنبه ، كما طولبت أمته أيضا بالاستغفار من ذنوبها . و فى ذلك أكثر من آية . و ليس هناك ما يدعو الى الخلط و التأويل الفاسد ( كما يقول بعضهم : ان المقصود بامر الاستغفار أمة محمد ، و ليس محمدا نفسه ) ...
" فى القرآن صور من عتاب الله لمحمد ، و ليس العتاب إلا نتيجة لمجانية الصواب و ارتكاب الخطإ . و ليس من المعقول مجاراة أولئك المغالين الذين يحرصون – بل يصرون – على أن يضفوا على شخصية محمد هالة من التقديس الذى يأباه محمد نفسه ، لأنه فى غنى عنه . و ليست عظمة الشخصية فى أن تكون معصومة من الخطإ ... ( ثم ينقل بعض نماذج من صور العتاب لمحمد ) .

" هذه بعض نماذج من صور العتاب لمحمد ، فى كتاب الله عز و جل ، حتى يتبين لنا أن العصمة من الزلل و الخطإ إنما هى لله وحده ...
" و محمد كان بشرا قبل ان يكون رسولا . ثم صار بشرا رسولا . و لم تكن صفة النبوة و الرسالة لتحول دون طبيعته البشرية ، أو تحول بينه و بين الأنحراف فى السلوك الشخصى ، فى ما هو بعيد عن نطاق الوحى . فهو معصوم حين يتدخل الوحى – لأن الله هو الموجه ، و العصمة له وحده – و هو غير معصوم حين لا يتدخل الوحى ، لأنه بشر ، و البشر ليست العصمة واجبة إليهم ...
" و لذلك كان – كما جاء فى صحيح مسلم و غيره – يستغفر الله فى اليوم و الليلة مائة مرة . و كان من دعائه ، كما ورد فى الصحيح : " اللهم اغفر لى خطإى و جهلى ، و ما أنت أعلم به منى . اللهم اغفر لى هزلى و جدى ، و خطإى و عمدى ، و كل ذلك عندى " .
و هكذا فإن محمدا ، خارج نطاق الوحى ، ليس معصوما من الخطإ ، و ليس معصوما من الخطيئة . و برهان ذلك عتاب الله مرارا له ، و الأمر المتواتر بالاستغفار من الذنوب .
و كم تكون عظمة الشخصية كبيرة ، إذا كانت معصومة من الذنب ، الذى لم يسلم منه بشر ، و لا نبى و لا رسول . و هذه العصمة المعجزة فى السيرة لم ينلها سوى السيد المسيح : " و جعلنى مباركا أينما كنت ... و السلام على يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا " ( مريم 31 – 33 ) . انها سيرة مباركة فى كل زمان و مكان ، و تستحق سلام الله عليها فى كل الأحوال من المهد الى اللحد ، و من الأرض الى السماء . ان روح القدس كان يؤيد السيد المسيح فى الوحى ، و فى السيرة ، و فى الدعوة ، " يسير معه دائما " ، " لا يفارقه ساعة " . فهذا التأييد هو مصدر العصمة من الخطيئة و الخطإ عند السيد المسيح .
عصمة فى الوحى ، و عصمة من الخطإ فى السلوك ، و عصمة من الاثم ، هذا هو الإعجاز المطلق فى الشخصية النبوية عند المسيح . أما محمد فليس من إعجاز فى سيرته الشخصية يجعلها معجزة رسالته و دعوته . إننا لا ننكر إعجازا فى سيرة النبى الشخصية ، لكننا نستنكر أن يكون هذا الإعجاز معجزة إلهية .

الصفحة
  • عدد الزيارات: 9486