Skip to main content

سيرة محمد الشخصية - أزمات محمد النفسية

الصفحة 3 من 4: أزمات محمد النفسية

ثانيا : أزمات محمد النفسية
عقد الاستاذ دروزة فى ( سيرة الرسول ) فصلا قيما فى " الأزمات النبوية النفسية " ( 1 : 226 – 275 ) نقتطف منه بعض ما يلى :
1 – إن الأزمة النفسية الأولى كانت فى لقاء الوحى و فى فتوره ، حيث حاول الانتحار مرتين بعد رؤيا غار حراء ، كما نقل البخارى عن عائشة ( 1 : 3 ) : " رجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملونى ، زملونى ! فزملوه حتى ذهب عنه الروع " .
و روى الطبرى ان الروع لم يذهب ، بل فكر بالانتحار ، فقد نقل عن ابن الزبير : " قال : قلت إن الأبعد – يعنى نفسه – لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عنى قريش أبدا .
لأعمدن الى حالق من الجبل ، فلأطرحن نفسى منه ، فلأقتلنها . فلأستريحن ! قال : فخرجت اريد ذلك . حتى اذا كنت فى وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله و أنا جبريل " ( 1 ) .
اطمئن الرسول ، لكن سرعان ما عاودته فكرة الانتحار عند فتور الوحى . يتابع البخارى حديث عائشة ( 1 : 4 ) : " ثم لم ينشب أن توفى ورقة و فتر الوحى " . كان ورقة ، قس مكة ، سنده فى طريق النبوة . و ها الاستاذ و السند يموت . " و لقد قيل : ان النبى ضاق ضيقا شديدا بانقطاع الوحى عنه . و انه كان يهيم على وجهه فى الصحراء يناجى ربه . و بلغ به الأمر مرة أن هم بإلقاء نفسه من قمة جبل شاهق . و قد انتهت هذه المحنة بنزول سورة ( الضحى ) التى تصف هذه الأزمة النفسية " ( 2 ) .
2 – إن الأزمة النفسية الثانية كانت فى انفعاله المتواصل من عدم ايمان بنى قومه برسالته : " فإن الله يضل من يشاء و يهدى من يشاء : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . ان الله عليم بما تصنعون " ( فاطر 8 ) . قال دروزة فى تعليقه ( 3 ) : " و تلهم انها نزلت فى وقت اشتد فيه الحزن و الغم على النبى صلعم بسبب موقف الجحود الذى يقفه قومه من دعوته " .
و هذه الأزمة تتجدد فى العهد الثانى بمكة : " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ! و ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين ! " ( الشعراء 3 و 5 ) . علق عليها دروزة ( 4 ) : " و مما لا ريب فيه أنها نزلت فى ظرف اشتد فيه حزن النبى و همه من مواقف التكذيب و الإعراض ، و هذا مما احتوته الآيات صراحة " .
و دامت هذه الأزمة الى العهد الثالث بمكة : " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " ( الكهف 6 ) . قال دروزة ( 5 ) : " و الآية مثل آية الشعراء الثالثة . و تكرار الخطاب المماثل فى فترتين متباعدتين يدل دون ريب على تكرار الظروف ، و بالتالى على تكرار الأزمة من جراء موقف الجاحدين " .
و قد يتدخل الوحى ، فى تلك الحال ، حينا لتسليته : " طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ! " ( طه 1 – 2 ) ، و حينا لاحراجه و تعجيزه فى يأسه : " إنك لا تسمع الموتى ! و لا تسمع الصم الدعاء ! إذا ولوا مدبرين . و ما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، فهم مسلمون " ( النمل 80 – 81 ) .
3 – إن الأزمة النفسية الثالثة كانت فى تضايقه من استهزاء المشركين المتواصل : " كانوا به يستهزئون " ( 6 : 5 و 10 ، 11 : 8 ، 15 : 11 ، 16 : 34 ، 21 : 41 ، 26 : 6 ، 36 : 30 ، 39 : 48 ، 40 : 83 ، 43 : 7 ، 45 : 33 ، 46 : 26 ) . يستهزئون من شخصيته الكريمة : " و إذا رأوك ، إن يتخذونك إلا هزوا : أهذا الذى بعث الله رسولا ! " ( الفرقان 41 ) . و يستهزئون بدعوته : " و إذا رآك الذين كفروا ، إن يتخذونك إلا هزوا : أهذا الذى يذكر آلهتكم " ! ( الأنبياء 36 ) . فيضيق صدرا بهذا التهكم و الاستهزاء : " و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " ( الحجر 97 ) . و يحزن : " فلا يحزنك قولهم : إنا نعلم ما يسرون و ما يعلنون " ( يسن 76 ) . يحزن حزنا متواصلا : " قد نعلم أنه ليحزنك الذى يقولون " ! ( الأنعام 33 ) . فتأتيه تعزية و تسلية : " إنا كفيناك المستهزئين " ( الحجر 95 ) . لكن سرعان ما يعود الهزء و السخرية فى المدينة ، بأسلوب أدهى ، مع المنافقين : " و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ! و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون " ! ( البقرة 14 ) . و تدوم الحال مع المنافقين فى الهزء و السخرية إلى آخر العهد بالمدينة : " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما فى قلوبهم . قل : استهزئوا ، ان الله مخرج ما تحذرون ! و لئن سألتهم ، ليقولن : إنما كنا نخوض و نلعب : قل : أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون ؟ " ( التوبة 64 – 65 ) . و تأتى هذه الصورة فى موقفهم من التنزيل : " و اذا ما أنزلت سورة ، فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه ايمانا ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا و هم يستبشرون ، و أما الذين فى قلوبهم مرض ، فزادتهم رجسا على رجسهم و ماتوا و هم كافرون ! أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين " ؟ ! ( التوبة 124 – 126 ) . هذه إشارة الى انه كان ينزل بالمدينة فى كل عام سورة أو سورتان ، فكان ذلك مناسبة لفتنتهم فى العام مرة أو مرتين . و هذه السخرية بمناسبة التنزيل كانت تصيب محمدا فى الصميم . و تتراكم الأزمات فى نفس النبى .
4 – إن الأزمة النفسية الرابعة ، كانت فى موقف أقاربه من دعوته . فهو يصف موقفهم منه بقوله : " و هم ينهون عنه ! و ينأون عنه ! " ( الأنعام 26 ) ، أى بعصبيتهم
القومية يحمونه ، و بسبب شركهم يبتعدون عنه . و فى ( أسباب النزول ) للسيوطى : انها نزلت فى عمومته ، و كانوا عشرة : فكانوا أشد الناس معه فى العلانية ، و أشد الناس عليه فى السر ، و هذا الموقف كان يؤلمه جدا لتأثيره السىء على الناس . و بما أنه دام حتى فتح مكة ، فإن مرارة النبى من عشيرته كان متواصلا لا ينتهى . و ذات مرة جاءه الأمر : " و أنذر عشيرتك الأقربين ... فإن عصوك ، فقل : إنى برىء مما تعملون " ! ( الشعراء 214 – 216 ) . فدعاهم الى وليمة أولى ، ثم الى وليمة أخرى ، فما أفلح فى دعوتهم . فدعاهم جهارا الى جبل الصفا ، فعطل الدعوة عمه أبو جهل ، و ناوأه عمه أبو لهب . فتوسل بعمه العباس ، و عمته صفية ، فما نجح . فخلف ذلك فى نفسه يأسا عظيما ، زاده الوحى مرارة بتعجيزه : " إنك لا تهدى من أحببت ، و لكن الله يهدى من يشاء ، و هو أعلم المهتدين " ( القصص 56 ) ، " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل " ( النحل 37 ) . و هذا الموقف يجمع الى الألم الذاتى ، الفشل الاجتماعى المشهود . قال دروزة ( 1 ) : " و انه لمن الطبيعى أن يثير هذا الموقف السلبى فى نفس النبى صلعم أزمات حادة من حين لآخر . فقد عرفت بيئة النبى و عصره بالتضامن أو العصبية العائلية . و من المعقول أن ينظر الناس إلى موقف أقاربه الأدنين منها ، و أن يكون لهذا الموقف أثر فيهم . و أن يتخذ الزعماء موقفهم حجة للانصراف و المكابرة ، أو وسيلة للدعاء بين عامة الناس ضدها " . و قد دامت هذه الأزمة نحو عشرين عاما ، حتى فتح مكة .
5 – إن الأزمة النفسية الخامسة كانت فى غيرة محمد وجماعته من سلطان المعارضين و ثروتهم من مال و بنين . فكانوا يستعلون عليهم : " و اذا تتلى عليهم آياتنا بينات ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أى الفريقين خير مقاما و أحسن نديا ؟ ( مريم 73 ) . و هذا الاعتداد بمقامهم و نديهم يجعلهم يستكبرون على الدعوة : " و قالوا : نحن أكثر أموالا و أولادا ! و ما نحن بمعذبين " ( سبأ 35 ) . و كان هذا الاستعلاء على الدعوة سببا فى صد الناس عنها و سببا لمرارة دائمة فى نفس محمد ، قال يصفها على لسان موسى من فرعون : " و قال موسى : ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا فى الحياة الدنيا ! ربنا ، ليضلوا عن سبيلك ! ربنا اطمس على أموالهم ! و اشدد على قلوبهم ! فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " ( يونس 88 ) .
و يتجمع مع الألم الغيرة من حال المشركين فى الثروة : " و لا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ، لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى ! نحن نرزقك و العاقبة للتقوى " ( طه 131 – 132 ) . و عاد النبى الى فتنته و أزمته ، فعاد الوحى الى تأديبه : " لا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم ، و لا تحزن عليهم ، و اخفض جناحك للمؤمنين " ( الحجر 88 ) . و هذا الموقف النبوى ليس من الإعجاز فى الشخصية و القداسة .
6 – إن الأزمة النفسية الصادسة كانت ، عكس السابقة ، فى تبرم النبى بجماعته من الفقراء ، عند أنفة المشركين من مجالسته وهم معه . فيأتيه التحذير و التأديب : " و اخفض جناحك للمؤمنين " ( الحجر 88 ) . لكنه يعود لمثلها ، فيعود الوحى الى التنبيه و الترهيب : " و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " ( الشعراء 215 ) . و ينص القرآن على تضايق محمد بأتعس المؤمنين كالأعمى و اليتيم و السائل : " عبس و تولى ، أن جاءه الأعمى ... " ( عبس 1 – 2 ) ، " أما اليتيم فلا تقهر ! و أما السائل فلا تنهر ! " ( الضحى 9 – 10 ) . و قد تشتد الأزمة بالنبى فيطرد المؤمنين من مجلسه : " و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ! ما عليك من جسابهم من شىء ! و ما من حسابك عليهم من شىء ! فتطردهم ، فتكون من الظالمين ! " ( الانعام 52 ) . فيأمره الوحى بالصبر عليهم : " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشى يريدون وجهه ! و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ! و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه ، و كان أمره فرطا " ( الكهف 28 ) . فكأن موقف النبى فى ذلك مظاهرة للكافرين ، فيردعه الوحى ردعا جميلا : " و ما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك : فلا تكونن ظهيرا للكافرين ! و لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت اليك ! و ادع إلى ربك و لا تكونن من المشركين ! " ( القصص 86 – 87 ) .
و قد علق دروزة ( 1 ) على هذه الأزمة المتواصلة بقوله : " و نعتقد أن آيات الانعام ( 52 – 53 ) و الكهف ( 28 – 30 ) و الاسراء ( 73 – 76 ) و القصص ( 85 – 88 ) ... تنطوى على مشاهد من أزمات النبى صلعم النفسية . إذ يصح أن يقال فى صدد آيات ( الانعام و الكهف ) ان النبى إذا كان خطر على باله أن يهمل الفقراء و المساكين من المسلمين ، أو
يصرفهم عنه ، حينما احتج الزعماء و طلبوا إقصاءهم عنه ليجلسوا اليه و يتحدثوا معه ، فإنما كان هذا فى ساعة من ساعات أزماته النفسية ، و منبعثا عن حزنه الشديد لتمسك الزعماء بجحودهم و معارضتهم و متابعة الناس لهم ، و عن أمله فى احياز المعتدلين الى صفه . و اذا يصح ان يقال هذا كذلك فى صدد آيات ( الاسراء و القصص ) ، و ما يمكن أن يكون قد خطر على باله من التساهل و الاستجابة لبعض مقترحات هؤلاء الزعماء " .
و هذا أيضا من الإعجاز فى الشخصية النبوية .
7 – إن الأزمة النفسية السابعة كانت مزدوجة متواصلة طول مدة الدعوة . كانت أولا فى تحدى المشركين له بمعجزة ، نحو خمس و عشرين مرة صريحة ، غير الضمنية ، طول نجاح دعوته . و كانوا يقولون : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) . و إذا لم يأتيهم بآية كالأنبياء الأولين ، " قالوا : أضغاث أحلام ! بل افتراه ! بل هو شاعر ! فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الانبياء 5 ) . فدعاهم مرارا الى الآنتظار ، و انتظر معهم طويلا فما جاءت المعجزة ، حتى امتنعوا عن الايمان به : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن تأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) . أخيرا تحقق ان المعجزات منعت عنه منعا مبدئيا مطلقا : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات ، إلا أن كذب بها الأولون " ( الاسراء 59 ) فكاد النبى و المؤمنون أن ييأسوا : " و لو أن قرآنا سيرت به الجبال ! أو قطعت به الأرض ! أو كلم به الموتى ! – بل الأمر الله جميعا ! أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " ( الرعد 31 ) . أما المشركون فيئسوا و كفروا : " و يقول الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا بينى و بينكم و من عنده علم الكتاب " ( الرعد 43 ) . آيته الوحيدة شهادة أولى العلم من أهل الكتاب .
و هاجر مع جماعته الى المدين ، فلقيه هناك تحد أكثر ايلاما ، مناورات المنافقين و استهزاؤهم من أول العهد ( البقرة 14 ) حتى آخره ( التوبة 64 – 65 ) .
فكلها أزمات نفسية متواترة متراكمة تهد الجبال هدا . فصمد النبى لها . إنها البطولة فى معركة الصمود . لكنها ، إن دلت على شىء ، فهى تدل على " بشرية " محمد فى شخصيته . و ما ظهر فيها من انفعالات و ثورات نفسية ، و عزم حينا على الأنتحار ، و حينا

على الهجرة ، كل هذا لا يدل على اعجاز فى الشخصية . فغلإعجاز فى الشخصية يقتضى السكينة النفسية فى المحنة ، و الصمود حتى الاستشهاد .

الذنب و الاستغفار
الصفحة
  • عدد الزيارات: 9522