Skip to main content

ما بين الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية في السورة - مثال التأليف في سورة (المائدة)

الصفحة 4 من 5: مثال التأليف في سورة (المائدة)

ثالثا : مثال التأليف في سورة (المائدة)

وسورة (المائدة) – وهي من أواخر القرآن نزولا – مثال قائم على التفكّك في التأليف ، مهما استنبطوا له من استطراد وتخلص وانتقال ، في فنون المناسبة ، للحفاظ على الوحدة الموضوعية في التأليف .

إن وحدة السورة القرآنية ، كوحدة القصيدة الجاهلية ، تقوم قبل الموضوع على وحدة النظم والروي . وهذا واقع قرآني متواتر . لذلك فاختلاف النظم والروي دليل على الجمع المتنافر نظما ، علاوة على اختلاف الموضوع .

تستفتح السورة بآية العقود (1) وهي فاتحة فصل في الوفاء لعهد الحديبية (7 – 11) . لكنهم أقحموا بين الفاتحة (1) والفصل (7 – 11) بمجموعة تشريعات من زمن عمرة القضاء سنة 629م (2 – 10) . وفي آية تحليل الأنعام (1) – والمقصود الا بل خاصة ، وكان أهل الكتاب اليهود يحرمونها – إشارة الى ما حُرّم منها : "إلاّ ما يتلى عليكم" ؛ والاشارة الى الماضي ، بينما آية التحريم تأتي بعد (3) . وفي آية التحريم هذه ، من زمن عمرة القضاء ، أقحموا "ما نزل يوم عرفة ، عام حجة الوداع" (الجلالان) ، وهي قوله : "اليوم يئس ... اليوم أكملت لكم دينكم" ، وهي عامة ، فجعلها الاقحام مخصوصة بآية التحريم (3) كأن كمال الدين والاسلام فيها ‍ فأضر إقحامها بالنظم والشرع .

وأقحموا على السورة فصلا في جدال اليهود ، من زمن آل عمران (المائدة 12 – 86) . وفي هذا الاقحام العام أقحموا شذرات من جدال وفد نجران : نسي هؤلاء

النصارى حظا ممّا ذكروا به (14) ؛ تكفيرهم لقولهم بتأليه المسيح (17) ؛ تكفيرهم لتأليه المسيح والقول بالثلاثة (72 – 77) . وهذا الخلط بين جدال اليهود وجدال النصارى كان من تأثير السياسة ، في الفتوحات الاسلامية على جمع القرآن ، لجمع اليهود والمسيحيين في حملة اسلامية واحدة . فأوقعهم ذلك في تعارض مكشوف بين الآية (82) التي تجعل "أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" ، وتجعل "اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" – وبين الآية : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض" (51) . والتاريخ والسيرة والقرآن شهود بأن اليهود والنصارى لم يكونوا "بعضهم أولياء بعض" . فما بين الآيتين تناقض مفضوح ، لأنهم أنزلوا "والنصارى" بدل "والمشركين" في الآية (51) كما تنص الآية (82) .

وفي فصل التشريعات الأخيرة من بعد فتح مكة (87 – 108) أقحموا أيضا شذرات من جدال وفد نجران المسيحي عام 631م ؛ في تكفير الغلو بتأليه المسيح والقول بالثلاثة (72 – 77) . وكان أولى لهم جمع جدال وفد نجران في فصل واحد (13 و17 و72 و77 و109 و120) بدل اقحامه في جدال اليهود – وهو في غير موضعه – وفي قسم التشريع من بعد فتح مكة . وكان أولى لهم لصحة التاريخ ولصحة التأليف وضع جدال اليهود في موضعه من آل عمران ، ووضع جدال وفد نجران (آل عمران 33 – 64) في موضعه من سورة المائدة ، بدل توزيعه على آل عمران والنساء والمائدة ضد الحقيقة وضد التاريخ ، مما يجعل تنافرا ظاهرا في وحدة السور .

فسور البقرة وآل عمران والمائدة هي أمهات القرآن ؛ وظاهرة التنافر في الجمع والتأليف بادية عليها موضوعا وتاريخا وأسلوبا . وذلك لأنهم جمعوا هذه السور على غير نزولها .

وهكذا نرى أن ما أسموه بالإعجاز في التأليف استطرادا وتخلّصا وانتقالا ، إنما هو تفكّك وتداخل وجمع متفرقات لا يجمع بينها الموضوع ولا الزمان ولا المكان ؛ وإن جمعت بينها وحدة فنية في النظم والفاصلة . وقد لحظ الأقدمون تلك الظاهرة في القرآن . فنقلها الخطابيّ في (بيان اعجاز القرآن) محاولا الرد عليهم : "وأما قولهم : لو كان نزول القرآن على سبيل التفصيل والتقسيم ، فيكون لكل نوع من أنواع علومه حيّز وقبيل ، لكان أحسن نظماً

وأكثر فائدة ونفعا . فالجواب : إنما نزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة ، وفي الآي المجموعة القليلة العدد ، لتكون أكثر لفائدته وأعم لنفعه ، ولو كان لكل باب منه قبيل ، ولكل معنى سورة مفردة ، لم تكثر فائدته ... ولكان الواحد من الكفار والمعاندين المنكرين ، اذا سمع السورة منه ، لا تقوم عليه الحجة به إلاّ في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط . فكان اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظا وأجدى نفعا من التمييز والتفريد" .

والرد على الخطابي بعد طول الزمن نأخذه منه : إن اقامة الحجة بإعجاز القرآن في نوع واحد يُغني بمعجزته عن سائر الأنواع ، من حيث البيان والتبيين . وكان غيره أصدق نظرا في وصف ذلك النظم المتفرّق بأنه طريقة العرب في تأليفها ، كما يظهر من الشعر الجاهلي في نظم القصيدة منه .

الاختلاف الواقع في الجمع والنظم والموضوع
الصفحة
  • عدد الزيارات: 13261