Skip to main content

بحثاً عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ

بحثاً عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ
آرثر جِفري / ترجمة مَالِك مِسلْمَانِي

سنة 1906 ظهر في الألمانية عملٌ لم تُفتح العينٌ على مثله يتناول حياة المسيح، بعنوان : "Von Reimarus zu Wrede,"، تأليف ألبرت شفايتزر، العالم ُ الشّاب ُ، الّذي لم يكن معروفاً حتّى ذلك الحين، و قد قام مونتغومري بترجمته إلى الإنجليزيّة تحت عنوان " بحثاً عن يَسوع التَّاريِخيّ " .

كان كتاب شفايتزر مسحاً شاملاً متألقاً لمختلف أنماط " سِيَر المسيحِ "، التي أنتجتها شتّى مدارس الفكر اللاهوتي ّ في أوروبا، من مدارس الورع الأرثوذكسيّ، البعيدة كلّ البعد عن قواعد النّقد، إلى تلك المسرفة في التّفسير الآخرويّ ( eschatological ) وحتّى الأسطوريّ. كان شفايتزر يهدف من ذلك إلى إجراء مسحٍ لمختلف المحاولات التي أُجريت من أجل تفسير حياة سيدنا، وبعبارة أخرى ـ إجراء بحث ٍ إحصائيٍّ لوضعية العلْم بصدد هذه المسألة، و أن يقيّم سنوات ٍ من البحث النّقديّ الصّبور، الّذي كُرس لهذه الإشكاليات.

في الآونة الأخيرة اُقترح بأن َّ الوقت قد نضج لبحث مشابه بصدد حياة نبي ِّ الجزيرة العَرَبِيّة، و لهذا بوسعنا أنْ نستعرض تقييمياً العمل الّذي تحقق، و جمع النتائج المؤكّدة التّي تم ّ بلوغها، و ملاحظة اتجاهات العلْم النَّقديِّة ِ التي تظهر خطوط البحث الواجب تتبعها مستقبلاً. يمكن لنا أن ْ ننتظر طويلاً بزوغ عالمٍ إِسْلاَمي ٍّ يتحلى باستعداد أصيل ومجدٍ نظير شفايتزر، ليأخذ على عاتقه هذه المهمة، بيد أنّ في مكننا إجراء محاولة رسم مختصرة لهذه المعالم الأساسية لمثل هذا الإستقصاء بكثير أو بقليل من النجاح.


 

المَصَادِر

إنّ اعتبارنا الأولُّ هو المَصَادِرَ، و من الطبيعي أنْ نتفحص أدب المسلمين، إذْ إنّهم أوّل من يٌؤمل منهم ترجمة حياة نبيّهم. هنا ولدى النّظرة الأولى فإنّ قلب الدّارس قَدْ يخفق ارتباكاً أمام العدد الكبير حقاً لِسِيَرِ المسلمين بصدد النَّبِيّ، حيث ثمّة مئات منها بالعَرَبِيّة، والفارسية، و التّركيّة، و الأوردوية، و المالاوية، وحتى بالصِّينية وبدرجة أقل ّ بلغات ٍ شرقية ٍ . على أيّ حالٍ، يبيّنُ البحث ُ الأشد ُّ اختصاراً أن َّ مشكلة المصادرِ هي بسيطة نسبيّاً، إذْ لا تعدو أن تكون مئات المجلدات الموجودة سوى تكرارٍ وإضافاتٍ خُرافيِّةٍ غيرٍ متصلة بالموضوع و بتعديلات ربما لما يقارب ستة من النّصوص ِ العَرَبِيّة المهمة الرئيسة.

إن َّ الأثر الأقدم الّذي بحوزتنا بصدد حياة مُحَمَّد ٍ كتبه مُحَمَّد ُ بنُ إسحاق، الّذي مات سنة 768 م، بعد مئة وثلاثين سنة من وفاة النَّبِيّ. إنّ كتاب َ ابن ِ إسحاق َ قد فٌقد على كلِّ حال ٍ، و كلُّ ما نعرفه عنه هو مقتبس منه ـ ومن حسن الحظِّ إنَّ هذه الاقتباسات قيّمةٌ في كتبِ المؤلِّفين الّلاحقين، لا سيما ابن هشام والطّبريّ. و علاوة على أنّ عمل ابنِ إسحاق هو المحاولة الأقدم المعروفة بصدد السيرة، فإنّ له أهمية أبعد من ذلك، هذا بغض النَّظر ِ عن أنّ الكاتب كان بشكل ٍ ما مفكراً حراً، أو لأنه لم يخضع لتأثير النزعات المُتأدْلَجَة المتأخّرة، إذْ إنّ عمله يتضمن معلوماتٍ حول سجايا النَّبِيّ الّتي لا ريب إنها سلبية. كما يستشهد دكتور مارغوليوث:

إن ّ شخصيةَ مُحَمَّدٍ الّتي جاء وصفها في سيرة ابن هشام سلبية ٌ إلى حدٍ بعيد. فهؤلا يتورّع عن وسيلة لكي ينال غايته؛ ويصادق على انعدام ضمير أتباعه، حينما تُمارس في مصلحته. و إذْ كان قد انتفع إلى الحد الأقصى من مرُوْءَة المكيين، فإنّه نادراً ما قابلها بالمثل. كان ينظم الاغتيالات والمجازر على نطاقٍ واسع ٍ . إن ّ سيرته في المدينة هي أنه زعيم ُ لصوص ٍ، الّذي تتشكل سياسته الاقْتِصَادِيّة من تأمين الغنائم وتقسيمها، وفي بعض الأحيان كانت تجري قِسْمة الغنائم وفق اعتبارات لم تكن ترضي فكرة أنصاره حول العدالة. إنّه نفسه كان خليعاً، طليق العنان ويشجع نفس الهوى لدى أتباعه. وبغض ِّ النّظر عن الفعل الّذي كان يقوم به فإنّه كان على أهبة الإستعداد لتبريره بتفويض إلهي ٍّ خاص ٍ . وعلى أيَّة حالٍ من المستحيل أنْ نجد أيَّ مبدإٍ، لم يكن مستعداً ليتنازل عنه من أجل ضمان الغاية السيَاسية. و عند مفاصل مختلفة في حياته تخلَى عن وحدانيّة الإله ودعواه بلقب النبوة. وهذه صورة بغيضة لمُؤسِّسِ الدِّين، و لا يمكن تبريرها بأنَّها صورة رسمتها ريشةُ عدوٍ؛ ولهذا السبب كان اسم ابن إسحاق واقعا ً في اعتبار متدنٍ لدى التقليدييّن الكلاسيكييّن للقرن الثالث الهجريّ، و إنْ لم يحاولوا تكذيبٍ هذه الأجزاء من السَيرة التي تحتوي على التفاصيل الأشدٍّ وجعاً حول شخصية نبيّهم .

( Encyclopedia of Religion and Ethics, volume 8, p. 878.)

و يلمّح مارغ وليوث إلى جانبٍ في صالح هذه السِّيرة، ذلك أن َّ ها نادراً ما تلجأ إلى الخارق، و حتّى عندما تُقدّم المُعْجِزَةُ فإنّ ذلك لا يظهر أنها تؤثر على السببيَّة.

إذاً، إن ّ المصدر َ الأولَ المهم الّذي وصل إلينا بالحقيقة هو كتاب ُ المغازي للواقدي ِّ. مات الواقديّ سنة 822 م، و لعلَّ أفضل نصٍّ يمكن الرجوع إليه هو ترجمة أجزائه المهمة في عمل فلهاوزن " مُحَمَّد ٌ في المدينة " ( برلين 1882 ). و على أيِّ حالٍ يتسم عمل الواقديِّ بقصورٍ جدي ٍ، ذلك إنّه يتعامل فقط مع حملات مُحَمَّدٍ. وبعد ذلك بقليل تأتي السِّيرَة النّبويّة لابن هشام ( تحرير فوستنفيلد ، غوتنغِن 1859، و قد تُرجمت إلى لغة ألمانيّة ٍ مبهمة من قبل فايل Des Leban Mohammeds , 2 vols., Stuttgart, 1864. )، و كتاب الطّبقات الكبرى لابن سعد ( تحرير إدوارد زاشاو، بمساعدة عدد من الدارسين الآخرين، في تسع مجلدات، طُبعت ما بين 1904 ـ 1921 في ليدن ) . مات ابن هشام سنة 933 م، وابن سعد 844 م . والأعمال اللاحقة بالعَرَبِيّة لها قيمة ثانويّةٌ مقارنة ً مع هذه الأعمال.

بكلِّ الأحوالِ ليست هذه الأعمال مصادر أولية، فهي نفسها مؤسسَة على مصدرين: الأحاديث ِ و القُرْآن ِ. والمجموعة الأهم ِّ من الأحاديث هي للبخاري ِّ ( ت 870 م )، ومسلم ٍ ( ت 874 م ). و لاحقاً سننظر إلى القيمة التي يمكن عزوها إلى الأحاديث. وسنعتبر القُرْآنَ الّذي حُرر تقريباً في الشكل الّذي لدينا خلال جيل ٍ من وفاة مُحَمَّد ٍ مصدرن َ ا الأولَ لحياة مُحَمَّدٍ. بالطبع، سيكون جلياً إلى أيِّ قارئ ٍ للقُرْآن ِ، كم هي المواد المتعلقة بالسِّيرة ضئيلة ٌ. و كان نلدِكه أول من أشار إلى أهمية الشاهد في القُرْآن في طبعة ( 1860 ) لعمله " Geschichte des Qorans "، ومن الممكن أنْ يكون عمل كانون سِـل " تطورُ القُرْآنِ التَّاريِخيّ ِ " ( مَدراس ، 1909 ) خلاصةً مدروسةً بصيغة سهلةٍ لعمل نلدِكه، حيث اشتغل سِل على مخطوطة مترجمة تمت لأجله في الهند .

بإمكاننا أن ْ نجد خلاصةً موجزةً ممتازة ً حول مسألة المصادر في مقالة زاشاو التي كتبها كمقدمة لكتاب ابن سعد من طبعة ليدن، أو الخلاصة الأقدم في مقدمة عمل السير ويليام موير " حياة مُحَمَّد ٍ "


الرِّوايات المسِّيحيّةُ المبكِّرة

ظهرت الإشارة الأقدم إلى مُحَمَّدٍ في الأدب المسِّيحيّ في " تاريخ سيبوس "، المكتوب في القرن السّابع الميّلادي، حيث انحصر قوله في أن مُحَمَّداً إسماعيليٌّ، إدّعى النُّبوَّة وعلّم أبناء بلده العودة إلى ديانة إبراهيم . إنّ القيمة الّتي لدى الكُتَّاب البيزنطييِّن ضيئلة، لكنه يتأتى الاعتراف بأنَّ هذا المصدر لم يُفحص إطلاقاً من قِبَل دارسي الإِسْلاَم . فـ " نيسيتاس البيزنطي "، يكتب: ["Refutatio Mohammadis" (Migne P.G. cv) ]، و يكتب ارتولوميو من إديسّا رسالةً بعنوان: [ "Contra Mohammadem" (Migne P.G. civ) ]، اللّتان يمكن أخذهما كنماذج لأعمال نشأت نتيجةً عن التماس مع القوة الإِسْلاَميّة في الحروب التي سلبت من الإمبراطوريّة البيزنطيّة مقاطعاتها الشّرقيّة الواسعة الواحدة تلو الأخرى.
لقد حصل الكتّاب القروسطيون اللاتين على معلوماتهم من مصدريْن: الرِّوايات البيزنطيّة؛ و من التواصل الشّخصي مع الإِسْلاَمِ خلال الحملات الصّليبيّة. إنَّ استقصاء تطور الخرافات الجّافية التي انتشرت عبر أوربا خلال هذا العصر ستكون دراسة ممتعةً، حيث بدا مُحَمَّدٌ واحداً من ثلاثة أوثان: أبولّين، تيرغافان، وماهون، الّتي كان يُعتقد على نطاق شعبي بأنّها معبودات المسلمين. و قد عبرت الأساطير إلى إنجلترا، و في لغة أسلافنا فإنَّ اسمَ مُحَمَّدٍ، في صيغته المحرفة " mawmet "، صـار كلمةً مألوفةً لـ " الصَّنم ". وهذا ما نقرأه في " أسطورة القديس أندرو ". و قد تكرر ذلك في " حياة القديس جوليان " المكتوبة حوالي 1200 م . و على أيّ حال كان كتاب العصر الكنسيّون ينظرون إلى مُحَمَّدٍ على أنه هرطوقيٌّ أكبر ، أريوس ثانٍ ، أسوأ من الأول. و قد تقولبت أسطورته وفق الأساطير الهرطوقيّة الكبرى ، لسيمون ماغوس وديكون نيكولاس. و يشير رينان إلى السبب في مقاله في (Atti della Academia dei Lincei) ، لعام 1889، حيث يكتب : " في الكتابات الشَّعبية ، ثمَّ افْتِراءات بغيضة تهدف إلى تقليد الشيطان الأكبر قلائد الخزي الّذي ترغب المسِّيحيّة بقمعه بأيِّ ثمن " "Dans les écrits populaires, il s'y joint d'atroces calomnies, destinées à couvrir d'ignominie l'auteur du grand mal que la chrétienté voulait a'tout prix supprimer". و هناك على أيّ حال استثناءات بارزة ، لهذا الجهل الكلّيِّ و سوء الحكم يمكن أن ترُى في حالات رجال مثل " بتروس فينرابيليس " ( ت 1157 م )، و الّتي نُشرت شذرات من مناظراته من جانبِ توما ( " كتابان ضد المُحَمَّدية " Zwei Bücher gegen den Muhammedanismus. ، لايبتش ، 1896 م )، و كتاب الراهب الدومينكاني ريكلودس ( ت 1320 م ) " Confutatio Alcorani "، الّذي ترك أثراً شديداً على مارتن لوثر، حيث يُظهر فيه المُؤلِّفُ إطلاعاً دقيقاً غيرَ عاديٍّ على المادة.


العَهْدُ قَبْلِ النَّقديِّ

بعد عصر النَّهْضَةِ نجد أنّ القضيّة عادت لتجذب الاهتمام. مثل أعمال رايله " حياة و موت مُحَمَّد " ( لندن ، 1637 ) ، و بريدو " حياةُ مُحَمَّدٍ، أو أين يُكشف حقيقة الدجل " Vie de Mahomet, ou l'on découvre amplement la verité de l'imposture ( أمستردام ، 1698 ) ، و هي مبنية على المواد العَرَبِيّة التي صارت متاحةً في التّرجمات الّلاتينيّة ؛ لكنَ رواية هوتينغِر حول تعاليم مُحَمَّدٍ في " His¬toria Orientalis " ( زويخ ، 1651 )، و انتقادات مارّاكسيو القاسية الّتي تتخلّل كتابه " التفنيد " ( بادوا ، 1698 ) تبدأ التقاليد الّتي تعتمد على المصادر الأصليّة نفسها. و أغلب هذه الأعمال معادية بشكل مرير و مسبقة الحُكْمِ، على الرَّغم من أنّ هوتينغِر سعى لتقديم حُكْمٍ غيرِ متحيزٍ. و بكلِّ الأحوال لقد دخلنا المعالجة الجديدة للموضوع مع العالم الهولندي ريلاند. إذْ كان قد تطلّع في عمله " de Religione Mahommedica " ( أوترِشت ، 1704 )، إلى التّنأي عن الموقف العدائيِّ من مُحَمَّدٍ، و كافح من أجل تقدير نزيه لأهميته التَّاريِخيّة. على أي حال، كان لعمله حظ سيئ حيث حاكه كتاب " Vie de Mahomed" ( لندن ، 1739 ) تأليف هـ . دي بولينفيلييه، الّذي كان إطناباً طناناً في مُحَمَّدٍ من أجل التقليل من شأن المسِّيحيّة. لقد سماه هورغرونيه " رواية ضد أكليروسيّة، حيث إنَّ المواد المستمدة من معرفة سطحيّة بالإِسْلاَم مستقاة من مصادرَ ثانويّةٍ ". وبوسعنا أن نميّز أصداء بولينفيلييه في ترجمة غيبون لحياة مُحَمَّد في عمله " الأفول و السّـقوط " ( لندن ، 1776 ) . لا ريب أن غاغنير قد كتب عمله " Vie de Mahomet " ( أمستردام ، 1748 ) من أجل مقاومة الانطباع الخاطئ الّذي أحدثه بولينفيلييه. ساعياً بعمله هذا إلى أخذ منتصف المسافة بين بولينفيلييه من جهة و بريدو من جهة أخرى. مهما يكن من أمر، لم يكن ممكناً التّقدم أكثر طالما لم يتمّ العمل على المصادر العَرَبِيّة.


 

بدايةُ النَّقْدِ

لدى مَطْلع القرن التّاسع عشر بزغ الاهتمام بالدِّراسات الشرقيّة، و هذا ما مكّن من الانطلاق في محاولة تناول المشكل بما يسـتحقه . بوسعنا القول إنّ العصر الجديد بدأ مع عمل غوستاف فايل ، المعنون : " Muhammad der Prophet, sein Leben und seine Lehre " ( شتوتغارت ، 1843 ) . و فيه أولّ تطبيق لمنهج حقيقي تاريخيّ ـ نقديّ لمسألة حياة مُحَمَّدٍ . ربّما لم يبلغ فايل بعيداً جداً في تقصيه ، كون مصادره كانت لم تزل محدودة ، لكنه وجد و طبق المنهج . و سنة 1864 أحرز تقدماً أبعد في ترجمته لسيرة ابن هشام . أما عمل غوسّا دي بِرسٍفال " Essai sur l'Histoire des Arabes " ( 3 مجلدات ، باريس ، 1847 ) ، فإنه كُتب كما يبدو مستقلاً تماماً عن فايل ، و يتابع وصف حياة و عمل مُحَمَّد ، و تنبع قيمته الحقيقيّة من المواد الضّخمة من المصادر العَرَبِيّة التي جُمعت معاً . و عالم آخر في هذه الحقبة هو فوستِنفِلد ، الّذي لم يكن كتابه " Das Leben Muhammad's " ( 3 مجلدات ، غوتينغِن ، 857- 1859 ) مساهمته الكبيرة ، بل طبعاته الممتازة للنصوص العَرَبِيّة المبكِّرة ، و دراساته الاستاذيّة ، مثل :
1 - " Genealogishe Tabellen der Arabischen Stümme und Familien" (G?ِttingen, 1852-l853).
2 - "Chroniken der Stadt Mekka" (4 vols., Leipzig 1861), "Das Gebiet von Medina" (G?ِttingen, 1873).
3 - "Die Geschichtsschreiber der Araber und Ihre Werke" (G?ِttingen, 1882).

التي أضاءت كثيراً جداً التاريخ المبكر . و على أي حال فإنّ لأعمال شبرِنغِر ، نِلدِكه ، و موير أهمية أكثر .
إنَّ عمل شبرِنغِر سيخضع للنظر في قسم آخر ، لكننا نحتاج لذكر شيء واحد ، فعلاوةً على عمله المهم جداً " Leben Muhammads " ، فإنّه أيضاً ـ مثل فوستِنفِلد ، قدّم مساهماتٍ مهمة في مجال دراسة خلفية حياة مُحَمَّد ، و ذلك في دراستيْه :

1 - " Die Post und Reiserouten des Orients " (Leipzig, 1864).
2 - " Die Alte Geographic Arabiens " (Bern, 1875).
كانت مساهمة نِلدِكه العظيمة هي مقاله " Geschichte des Qorans " ( غوتيغِن ، 1860 ) ، الّذي يخرج عن مجال مقالانا ، لكنّه كان المحاولة الأولى لتقييم المصادر الأكثر أهميّة من أجل إعادة بناء حياة مُحَمَّدٍ . إنَّ نِلدِكه النّاقد الأشد رهافةً ، و الأكثر حرصاً للغاية بصدد هذه الفترة المبكرة ، و بالعموم هو حريص جداً في حكمه التَّاريِخيّ . أما كتابه : " Das Leben Mummads nach den Quellen populür dargestellt " ( هانوفر ، 1863 ) . فهو العمل الأشدّ خفةً ، و الأكثر شعبيّة ، و الّذي صار الآن شبه منسيٍ . و أما العمل التتويجي لهذا العصر الأول من النّقديّة فهو كتاب " حياةُ مُحَمَّدٍ " لموير ، الّذي ظهر في لندن بأربعة مجلدات ، بين سنوات 1856- 1861 . لقد مكث السير ويليام موير في الإدارة المدنيّة في الهند لمُدّة طويلة ، و قبض على ناصية الأدب المُحَمَّديّ بالعَرَبِيّة ، و الفارسيّة ، و الأوردويّة ، كان يحوز على مكتبة شرقيّة عظيمة . كان عمله مُؤسَّسَاً على الدِّراسة الدقيقة لأفضل مادة متاحة في حينه . إنّ عمله غنيٌّ و مكتوب بشكلٍ نيّرٍ ، و من جهة أخرى متحرّر على نحوٍ لافت من الرأي المسبق . في مقدمته أعطى عرضاً لمبادئ نقد المصادر ، التي لا زالت تستحق القراءة ، هذا الموضوع الّذي طوّره في مقاله حول " قيمة المصادر التَّاريِخيّة المُحَمَّدية المبكرة " ، المطبوع في كتابه " مناظرة المسلم " ( لندن ، 1897 ) . لقد طبع عمل موير مراراً ، لكنَّ الطّبعةَ الأخيرة الصّادرةَ في مجلد واحد من قِبَل ت. هـ . وير ( إدنبره ، 1912 ) هي الأكثر ملائمةً .
مجموعة من الأعمال الأصغر ، و الأكثر شعبيّة مُشيّدة بشكل واسع على أعمال هذه الفترة من بداية النّقدِ . و الأكثر شهرة منها هي :
1 ـ " مُحَمَّدٌ و سُلْطَتِه " لـ " جونستون " ، ( إدنبره ، 1901 ) ؛
2 ـ " حياة مُحَمَّدٍ " لـ " سِل " ( مَدراس ، 1913 ) ؛
3 ـ " مُحَمَّدٌ ، حياتُه و تعاليمُه " لـ " فولاستون " ، ( لندن ، 1904 ) ؛
4 ـ " Mohamet et le Coran " لـ " القديس إيلِِر " ، ( باريس ، 1865 ) ؛
5 ـ " L'Islam et son Fondateur: étude morale " لـ " شول " ( باريس ، 1874 ) ؛
6 ـ "Vie de Mahomet " لـ " ديلابورت " ، ( باريس ، 1874 ) ؛
7 ـ " La Vie et la Morale de Mahomet " ، لـ " ألبر فوا " ، ( باريس ،1912 ) ؛
8 ـ " Muhammad und der Islam " ، لـ " راينِرِ " ، ( لايبتيش ، 1905 ) ؛
9 ـ " Mohammed und die Seinen " ، لـ " رِكِندورف " ( لايبتيش ، 1907 ) ؛
10 ـ " Das Leben des Muhammad " ، لـ " كرِل " ، ( لايبتيش ، 1884 ) .


السِّيَر المَرَضِيِّة

كان لا بدّ أنْ تعتري الدَّهشة الباحثين الأوربييّن بسبب تلك الإفادات الموجودة في المصادر حول النّوبات الغريبّة الّتي كانت توافي مُحَمَّداً ، سيّما عِنْدَ الوحي .

إنّ الانطباع... بأنّه كان عُرْضَةً للصَّرْاعِ تجد تأكيدها اللاّفت في الملاحظات المدوّنة لتجاربه أثناء الوحي ـ و لا يقللّ من أهميتها احتمال أن تكون الأعراض غالباً قد زُيّفت . العمليّة الّتي كانت تصحبها نوبة اللاوعي ، الّتي تُرافق ( أو تُسبق ) أحياناً بصلصلة الأجراس في الأذنيْن أو بتخيّل أحدٍ حاضر ، بإحساس الرعب ، تلك التي تدفع المريض إلى التّعرق و إمالة الرأس ، و إطلاق الزبد من الفمّ ، وتجعل الوجه يحمرّ أو يبيض؛ و إلى الشعور بالصّداع .
( مارغوليوث ، مُحَمَّد ، ص 46 ) .

لَمْ تُسْتَوْعَب هذه الحقائق كثيراً من قِبَلِ كُتّاب الاستشراق ، بيد أنَّ شبرِنغِر ، الّذي كان طبيباً عاماً ، أمسك بهذه الشواهد للصَّرْاع بوصفها حلاًّ مفتاحيًاً لشـخصيِّة مُحَمَّدٍ . و قد قام بعمله في كتابه الهنديّ الأوّل ، " حياةُ مُحَمَّد مِنَ المَصَادِرَ الأصليَّة " ( اللّه أباد ، 1851 ) ، الّذي هو مسودة هزيلة ، و تتوقف عند الهجرة من مَكّةَ ، و لاحقاً في بحثه الضخم :
" Das Leben und die Lehre des Muhammads " ( 3 مجلدات ، برلين ، 1861 ـ 1865 ) ،
و أخيراً في :
" Mohammed und der Koran: eine Psychologische Studie " ( هامبورغ ، 1889 ) .

إنّ عمل شبرِنغِر في هذا الاتجاه ممتع أكثر منه مقنعاً ، و قد تعرّض لنقد حادٍ . في مقاله في "كالكوتا ريفيو " لعام 1868 وصف السير موير عمله بأنّه : " مؤطّر بحب المفارقة ، و الميل إلى الاستهلال بالنّظريات المُشيَّدة على أرضيّات هشة . و يلاحظ هيرشفِلد : " إنّه يخطئ بكلِّ تأكيدٍ في أنّه يعزو نصيباً كبيراً في نشأة الإِسْلاَم إلى حالة [ مُحَمَّد ] العصبيّة أكثر مما تستحقها . إن النَّوْبَة الهلوسيّة و الهستيرية عامل غيرُ قويٍّ بما فيه الكفاية لإنتاج بالعموم جَيَشَانٍ كالّذي سببه الإيمان الجديد " New Researches," p.20. و يصفه هورغرونيه بأنّّه " عرض مبالغ فيه ليقينيّة مُؤسَّسَة على دراساته الطّبية السّابقة " Mohammadenism," p.42. . مهما يكن من أمر فقد وجد أتباعاً ، و كان أبرزهم الدكتور فرانتس بول ، العالم السابق للسّاميّات من كوبنهاغن ، الّذي طرح صيغةً معدّلةً من هذه النّظريّة في كتابه " Muhammed's Liv " ( كوبنهاغن ، 1903 ) . و يستوعب بول لحد كبير الحقيقة التي لاُحظت بأنَّ ذوي الطّبائع الهستيرّية يجدون صعوبةً غير عاديّة و غالباً عاجزاً كليّاً في تمييّز الصِّيغ الزائفة من الحقيقيّة . و تسيطر على هؤلاء الأشخاص الأفكار القاهرة ، و يستحيل عليهم النّظر إلى الأشياء على ضوئها الحقيقيّ ، و هو يظنُّ بأنّ ذلك هو السبيل الأكثر أمناً لتفسير التّضاربات الغريبة في حياة النَّبِيّ . و من الممكن أنْ نجد عرضاً لافتاً للرؤيّة البَاثُولُوجِيّة في بحث " حول هلوسة مُحَمَّد " ، في عمل صغير لـ " ويليام إيرلاند " ، بعنوان : " الجُلْطَة في الدِّماغِ : دراساتٌ في التّاريخ و علِم النّفسِ " ( نيويورك ، 1886 ) .

كان العمل المؤيّد للتّحليل النّفسيِّ " جوانب الإِسْلاَم " ( نيويورك ، 1911 ) للدكتور ماكدونالد ، من هارتفورد ، تطوراً إضافيّاً لوجهة النظر الهامة هذه ، حيث يخبرنا بأنّه يتطلّع إلى بحثٍ مستقبليٍّ مثمرٍ لحياة النَّبِيّ كي يكمل فرضيّة أنّها كانت حالةً بَاثُولُوجِيّةً بشكلٍ أساسي ، و بأنَّ " مآله إلى ذلك الفساد إشكالية مرةً أخرى لأولئك الّذين قاموا بدراسة كيف أنَّ غَيْبُوْبَةَ الوسيط الأِشد صدقاً يمكن أن تشرع بالخداع في أي وقت " ( م ن . ص 74 ) .

قبل أنْ نترك هذا القسم علينا أنْ نضيفَ كلمةً أُخرى حول عمل شبرِنغِر "Leben Mohammeds" . لا يجب أنْ يؤدي المللُ من النّظريّة بالدَّارس إلى تجاهل هذا العمل ، كونه الأكثر تحفيزاً من كلِّ الأعمال المتعلقة بسيرة مُحَمَّدٍ التي لدينا ، و هو منجم من المواد ، التي جُمعت بصبرٍٍ شديد و رُتبت بشكل متفوقٍ .


السِيَرُ السِّيا - اقْتِصَادِيّة

نقطة بدءٍ مختلفة تماماً أوحت بها لباحثين آخرين الشروطُ السِّيَاسِيَّةُ و الاِجْتِمَاعيّةُ للجزيرة العَرَبِيّة زمن مُحَمَّدٍ . كانت الشروط الاجتماسيِّة للجزيرة العَرَبِيّة أيام ميعة صبا مُحَمَّد سيئةً . فلم تكن الجزيرة العَرَبِيّة في أحسن أوقاتها خصبةً ، و في ذلك العصر بالتحديد كانت جميع الأطراف الطّيبة واقعةً عمليّاً تحت سيطرة القوى الأجنبيّة ـ البيزنطييّن ، الفارسييّن ، و الأحباش ـ الّذين كانوا يدفعون القبائل العَرَبِيّة أبعد باتجاه صحاريهم . و لم يكن الاتصال مع حضارة هؤلاء النّاس الأكثر تطوراً بدون تأثيرٍ ، إذْ جعل العرب المُعْدِمين يرنون بعيونهم التواقة إلى الأشياء الأفضل الّتي بالكاد حلموا بها حتى الآن . فالقبائل نفسها كانت لا تهدأ و ساخطة ، و الظروف الاقْتِصَادِيّة كانت بائسة ، و كانوا جاهزين للتجمع تحت أي راية تعطيهم أملاً بالخلاص الوطنيِّ . لقد كان مُحَمَّدٌ هو من رفع الرّاية ، و عمل على جعلهم قوةً وطنيّةً قويّةً ، التي ستضمن الجزيرة العَرَبِيّة للعرب .
لعلَّ كتابَ الدّكتور مارغوليوث " مُحَمَّدٌ و نهوض الإِسْلاَم " ( لندن ، 1905 ) ، الدِّراسة الأكثر تألّقاً لحياة مُحَمَّدٍ قد ظهرت و هي تعكس هذه النظرة ، و التي يمكن رؤيتها أيضاً في نفس مقاليْ الكاتب بصدد مُحَمَّدٍ في الـ (Encyclop?dia Britannica ) ( الطبعة 11 ) ، و (Encyclopedia of Religion and Ethics ) ( المجلد الثامن ) . و حسـب هذه النّظرة كان مُحَمَّدٌ محباً لوطنه ، واعياً بشكل رائع لفرص التّاريخ ، و الّذي أنشأ منهجية وحدة العرب في مواجهة الخطر العام ، و وّظف فرص العصر الذهبية .

إنّ الرّجلَ الّذي بوسعه أنْ يُنظَّمَ قوةً مسلحةً يقودها نحو النّصر يمكن أنْ يظهر من خمول الذّكر إلى الأوتوقراطيّة في أيِّ مكانٍ . و لعلَّ كلَّ قرنٍ إِسْلاَميٍّ لديه حكايةٌ حول شخصياتٍ مشابهة . لقد نهضت سلالات العبّاسييّن و الفاطمييّن ، البُوَيهييّن ، السَّلجوقييّن ، و العُثمانييّن بنفس الطريقة ؛ و في أغلبها كان اللجوء إلى الدِّين يلعب دوراً مهماً . فنجاح المُؤسِّسِين كان يعود بشكل واضحٍ لا إلى الحقيقة الموضوعيّة للعقائدِ الّتي كانوا مرتبطين بها ، بل إلى مهارتهم بوصفهم مُنظِّمين و زعماءً عسكرييّن ... كانت كفايته [ أي مُحَمَّد ] في تقدير صفات الآخرين غيرَ عاديةٍ : و من هنا فإنَّ اختياره للتابعين بدا بعيداً عن الأخطاء . و في المقام الثّاني ، كان مطّلعاً بشكلٍ كاملٍ على نقاط ضعف العرب ، و قد استعملها إلى أفضليتها القصوى . إنَّ قصص نجاحاته كما يقدمها ابن إسحاق ، تشير إلى غياب تام للشّك الأخلاقيّ ؛ لكنّها تظهر مزيجاً من الصّبر و الشّجاعة و الحذر ؛ القدرة على القبض على الفرص ، و الارتياب بالإخلاص عندما لا يكون مدعوماً بالمصلحة ، و هذا يفسر لحدٍ كبيرٍ موثوقيّة تحقق النتائج .
(Encyclopedia of Religion and Ethics, vol. 7, p. 873 ) .

يمكن القول إنّه كان في المدينة لصَّاً بالضبط مثلما كان داود ، ملك إسرائيل ، في أيامه المبكرة . فعندما دخل مَكَّةَ ، دخلها بوصفه زعيماً سياسيّاً أكثر من كونه نبيّاً ، و قد اعترف المكّيون به بهذه الصفة . كانت الاعتبارات السِّيَاسِيَّة تملي تعاملاته مع اليهود و المسِّيحيّين إلى حدٍ كبير : لقد تعامل مع القبائل الوثنيّة بصفته عاهلاً و مجمل موقفه بالنسبة إلى الإمبراطوريّات المحيطة كان بصفته رجل دولة . " إنَّ الحقيقة الأساسيّة في فجر الإِسْلاَم هي أنَّه صار للحركةِ وزناً عندما كان مُؤسِّسُها قادراً على امتشاق السيف و الإمساك به بنجاح " . و لهذا عندما نسعى إلى تقدير أهميّة مُحَمَّدٍ ، لا يجب علينا أن نحاكمه كمصلح صُوفِيٍّ أو دينيٍّ على الرَّغم من أنّه يمكن أن يكون حائزاً على عناصر منهما بل بالأحرى كرجل دولة واجه مشاكل سياسيّة محدّدة و ملحّة بين أناسٍ غير متحضرين لحدٍ ما و في لحظةٍ حاسمةٍ من التّاريخ .
إنّ رؤيةً مشابهةً كان يحملها العالم الإيطالي ليون كايتاني مع أنَّه لسوء حظنا ليس بين أيدينا صورته الكاملة للنّبيِّ . إلاّ أنّنا نملك على كلِّ حالٍ الخطوط الأوليّة لمعالجته في المجلّد الأوّل و الثّاني من كتابه الضخم " Annali dell' Islam " ( ميلان ، 1905 ـ 1907 ) ، و في المجلّد الثّالثِ لمُؤلَّفِه " Studi di Storia Orientale " ( ميلان ، 1914 ) . يقترح كايتاني بأنَّ الانفجار العظيم ، الّذي قذف بالجيوش العَرَبِيّة نحو فتح الأراضي الخصبة المحيطة ، هو فقط آخر سلاسل الانفجارات المشابهة للشعوب السّاميّة ، التي كانت تلفظها الجزيرة العَرَبِيّة في الأزمنة التَّاريِخيّة ، بسبب من الضغط الاقْتِصَادِيّ النّاتج عن الجفاف التّدريجيّ في الجزيرة العَرَبِيّة . هكذا صار مُحَمَّد قائداً لهذه الحركة ، وفق الأفكار الدّينيّة في الجزيرة العَرَبِيّة آنذاك ، إضافةً إلى ذلك سِياسِيَّاً و نفعياً .

إنَّ طبعه المندفع ، المقترن بكفاية سِيَاسيِّة نادرةٍ لرجل دولةٍ و مرشد للقوم ، جعلت من مُحَمَّد نفعيّاً متفوقاً ، مفعماً بثقة شديدة بالذَّاتِ ، مكنته من أن يقذف بنفسه بدون تبصر مع خِفة نحو المغامرة حيث ورط أولئك الّذين تبعوه ، و قد أثملتهم و أغوتهم أخلاقيّة المعلم العليا .
("Annali." I.205). Si fatto carattere impulsivo associato con esimie qualita politiche di uomo di stato e di pasiore di popoli rese Maometto uomo eminentemente opportunista, il quale animato da una cieca, immensa fiducia in se, si getto alla cieca nelle piu ardite imprese e si trascino appresso tutti i seguaci, inebbriati e sodotti dalla superiorita morale del Maestro.

و بدوره كان لدى الباحث د. س. هـ . بِكِر هذه النظرة ، الّذي كان أحياناً محرراً لـ (Der Islam ) ، كتب في مُؤلَّفِهِ " الإِسْلاَم و المسِّيحيّة " ( لندن ، 1909 ، ص 29 ) :

إنّ المسلمين المتعصبين لحروب الفتح ، الّذين كان صيتهم ذائعاً وسط الأجيال المتأخرة ، آمنوا و إنْ بقليلْ من الاهتمام بالدِّين ، و أظهروا في بعض الأحيان تجاهلاً للمعتقدات الأساسيّة الّتي بالكاد يسعنا المغالاة بها . و الحقيقة مُؤلَّفَةٌ كاملاً من الدوافع الّتي كانت تدفع الهجرات العَرَبِيّة . فهذه الدوافع كانت اقْتِصَادِيّةً ، و الدّين الجديد لم يكن أكثر من مطلب جماعة لتوحيد القوّة ، بالرَّغم من أنه ليس من سبب للافتراض بأنَّ لا قوة أخلاق حقيقيّة في حياة مُحَمَّدٍ و معاصريه المباشرين .

تطورٌ مثيرٌ للاهتمام ضمن هذا الجزء هو نظريّة البروفيسور أوبِرت غريم . حيث أصدر هذا المؤلِّفُ كتابَيْن حول مُحَمَّدٍ . أولهما " مُحَمَّد " ( ميونستِر ، 1892 ) ساعياً فيه إلى تفسير تطور الإِسْلاَم بوصفه ظاهرةً اشتراكيَّةً . فبعد أنْ درس و رفض نظرية شبرِنغِر بأنّ الحنيفيّة مصدرُ الإِسْلاَمِ الأصليِّ ، أشار إلى أنّ الإِسْلاَمَ يمكن أن يُفسر ببساطة بوصفه اشتراكيّاً أكثر منه منظومة دينيَّة .

إنَّ الشروط الّتي اعتدنا على رؤية الحركات الاشتراكيَّة تظهر فيها في التَّاريخ ، كانت في مَكَّةَ إِبَّان حياةِ مُحَمَّد . إذْ كانت شروط المعارضة داخل الهيئة الاِجْتِمَاعيّة قد أينعت إلى النقطة الّتي صارت فيها القطيعة وشيكةً . حيث طبقة غنيّة تملك كلَّ القُوّة بيديها ، تتسيّد على طبقة كبيرة من المُعْوِزِين الّذين يعانون من ضغط الربا العديم الرحمة . ضد الطّبقة الأولى اندفع القُرْآنُ في اتهاماته المحقة بغزارة ، فيما يتعلّق بأموالهم ، و بصدد المُطَفِّفين الّذين يُخسرون النّاس أوزانهم و مكايِيْلَهم . تبذيرهم الأحمق للثّروة من جهة ، و التّراكم المستمر بشكل حريص من جهة أخرى ، و أخيراً عدم رضاهم ، على الرَّغم من الوَفْرَةِ . و في الجانب الآخر ، كان الشاهد مؤلماً كيف أنه رُفض تقديم الصدقات إلى المساكين ، و السَّائلين ، و كيف يُحرم اليتامى من الميراث ، و العبيد يناضلون عبثاً للحرية و الانْعِتاق . و من أجل وضع نهاية لهذه الظروف المعادية ، تحت ظل العدالة التكافليّة ، قام مُحَمَّدٌ ، الّذي كان قد اختبر بنفسه قسوة حرمان اليتامى الفقراء في أيام نشأته ـ مع أنّه صار لاحقاً من الطّبقة ذات الأملاك ـ بوضع تشريع صارم يوجب على كلِّ فردٍ دفع مقدار معلوم لدعم المَحْرُومِين . و بهذه الطريقة فإنَّ المساواة ستتأسَّس سلميّاً ، باختلاف كليٍّ عن جميع المساعي الاشتراكيّة للأزمنة القديمة ، التي تُجلي ميلاً قويّاً للتحوّلات القسريّة في العلاقات الاِجْتِمَاعيّة .

بالكاد وجدت هذه الأطروحة الجريئة قبولاً ، و لدى ظهورها تعرَّضت لنقد لاذعٍ من قبل سنوك هورغرونيه Revue de l'Histoire des Religions, volume 30, pp. 48 ff.، الّذي لاحظ كِلاً من عدم صحة عمل غريم ، الّذي يظهر محدوديات علمه ؛ و كذلك عدم يقينيّة الأُسس الّتي بنى عليها نظريته .
للأسف فإنّ البروفيسور غريم ذو سمعة بالنّظريات الجامحة ، كما تشهد عليه مطابقته الجديدة لبعض علامات الأجواء على الأحجار ـ كما وصفها بيتري ـ في سيناء ، بوصفها خطَ يدٍ لموسى بالذات ، وحتّى لو كانت نظريته تملك قاعدةً سليمةً ، فإنَّ من المستبعد أنْ يكون الدَّافع الاشتراكيُّ قادراً على تفسير كلَّ الوقائع المأخوذة بعين الدَّرسِ .


النَّقدُ المُتَّقدِّمُ

لقد واتتنا الفرصة آنفاً لملاحظة أنّه إلى جانب القُرْآن و " سِيَر " ابن إسحاق و ابن هشام ، و آخرين غيرهما ، لدينا مصدر مهم آخر لحياة مُحَمَّدٍ ألا و هو الأحاديث . ففي الواقع وجدنا أن " السِيَرَ " المُبكّرة مُؤسَّسَةٌ بشكلٍ كبيرٍ على الحديث ، و في الفترة ما بين فايل إلى موير تتابع الكتّاب الأوربيّون على فرضيّة أنه لو تمَّ تمحيص كميّة معيّنة منها ، فإنّه يمكن التوثّق من مجموعة مُعتبرة من الأحاديث الصّحيحة لغايات السِيِرَة . و الدّفْعَة الأوليّة لهذه الفرضيّة جاءت من إيغناتس غولدتسيهر في عمله " Muhammedanische Studien " ( هاله ، 1889 ، 1890 ) ـ . و حتّى بعد التّمحيص الدقيق نجد أنَّ أقدم الأحاديث تعود بنا القَهْقَرى إلى القرن الأوّل الهجريّ ، و أغلب هذه الأحاديث ضعيفة ، و تلونت بالتحيّز الثيوقراطيِّ ، و هي مختلطة بالمادة الأسطوريّة ، و محرّفة من أجل مصالح أُسرٍ محددة و أحزاب سياسيَّة .

لقد كان من المعتقد أنَّ النًّقد الدقيق مازال ناجحاً في إيجاد بعض الأُسس الأكيدة ، لكنَّ تطوير عمل غولدتسيهِر على يد كايتاني و هنري لامنس بدأ بإجبارنا على الوصول إلى النتيجة التّالية :

حتّى المعطيات الّتي اعتبرناه عموماً موضوعيّةً تقريباً ، تتكئ بشكلٍ رئيس على الرِّواية المتحيّزة . إنّ الأجيال الّتي عملت على ترجمة حياة النَّبِيّ كانت قصيّةً عن زمنه كي تملك المعطيات أو الأفكار الصّادقة ؛ و علاوة على ذلك ، فإنّه لم يكن نصب أعينهم هدف معرفة الماضي كما كان ، بل بناء صورة له كما يجب أنْ يكون ، حسب آرائهم . لقد قام رواة الأحاديث برسم لوحات لآيات القُرْآن التي تحتاج إلى شرح ، بحيث توافق رغباتهم أو مُثُلُهم العليا ، و لجماعاتهم الخاصّة ، أو حسب مجاز لامِنس المفضّل ، يملئون المساحات الخالية من خلال سيرورة القولبة التي تسمح للملاحظ النَّقديِّ بتبيان أصل كلِّ صورة .
( Hurgronje, "Muhammadanism," pp. 23, 24 ) .

كنا قد أشرنا سابقاً إلى عمل كايتاني . أما لامنس فإنَّه لم يقدم لنا بعد " سِيرَةً نبويّةً " خاصة به ، و التي ستبدو فتحاً لدى ظهورها . لقد أرضى نفسه لحدٍ بعيدٍ بإصدار عدد من الدِّراسات الأوّليّة ، الّتي أطلق عليها " دراسات في السِّيرَةِ " ، أسّس منهجه ، محصّ مادته ، و إذا جاز التعبير ، مهدّ الأرض التّي يجب أنْ يُبني عليها . يكتب : " إنَّ منهجنا سيكون بحثا أحاديا [ monographic ] أكثر من سِيَري . إنَّ الكلَّ ـ لو شـاهدنا قط نهايته ـ سـوف يشكّل ترجمة جديدة لحياة مُحَمَّدٍ " Notre procédé,sera donc plus monographique que biographique. L'ensemble - si nous devons en voir la fin - formera une nouvelle Vie de Mahomet. ( "Le Berceau de l'Islam," p. vi). . و لعلّ خير مقدمة إلى عمله هـو مقاله " القُرْآن و الحديث : كيف أُلِّفت سيرة مُحَمَّد " Koran et Tradition: comment fut com¬posée la vie de Mahomet. ( باريس ، 1910 ) ، حيث بيّن أن الأحاديث هي مجرد توسعات بعضها فوق بعض لجملة عبارات و كلمات في القُرْآن و ليس لها مستند مستقل ، و بالطبع ، لا يمكن استعمالها كمصادر مستقلّة من أجل غايات السيرة . و في سنة 1911 ظهرت في المجلة الأسيويّة دراسـة إضافيّة " عَصْرُ مُحَـمَّدٍ و التسلسل التَّاريِخيّ للسِّـيرَة " L' Age de Mahomet et la Chronologie de la Sira. ، و في السـَّنة التّالية الدِّراسـة المهمّة " Fatima et les Filles de Mahomet " ( روما ، 1912 ) . حيث يعالج في هذا العمل أسطورة فاطمةَ في الكتابات الإِسْلاَميّة ، و يظهر فيه بالتفصيل كيف أنه تطورت هذه السِّيرَة المفصّلة لفاطمة جرّاء تفشي الصراعات ، و المحاسدة ، و التناحر بين مذاهب الإِسْلاَمِ الأولى ، الّتي هي خليط من العناصر المتنافرة التي أغلبها محرّف و متضارب لحدٍ كبيرٍ . بيد أنّ هذا مجرّد حجر تمهيد للاستنتاج التّالي :

إنّ المنهج عينه ، و المبادئ المتماثلة تحكم التّفصيل الدّنيويّ للسِّيرَة . فحول النّواة ، الّتي يوفرها تفسير القُرْآنِ ، نُسجت النّظريّات السِّياسيِّة المتنافرة ، متراكبة بالأحلام الثيوقراطيّة ، و أفكار مدارس اللاّهوت و الفقه ، مع نزعات الدّوائر الزّهديّة و مطامح الصُّوفيّة .

إذاً ، كما يلاحظ غولدتسيهِر : " بأنَّ ما أثّر على المشاعر الدِينيِّة ليس الصورة التَّاريِخيّة . بل اُستبدل في مكانها الأسطورة التَّقيِّة ، مع مثالها بصدد مُحَمَّد . "

إنّ الدّراسات الإضافيّة المهمة لـ لامِنس هي : " هل كان مُحَمَّد صادقاً ؟ " ( باريس ، 1914 ) ؛ و " الجمهورية التّجاريّة لمَكًّةً حاولي السّنة 600 ميلادي " ( الإسكندرية ، 1910 ) ؛ " الحُكْمُ الثّلاثيّ لأبي بَكْرٍ ، و عُمَرَ و أبي عُبيدةَ " ( بيروت ، 1909 ) ؛ " الخليفة يزيد الأوّل " ( بيروت ، 1921 ) ؛ و " مدينـة الطّائف العَرَبِيـّة " ( بيـروت ، 1922 ) . على الدّارس أنْ يراجـع مقال دكتور بِكِر بصدد " Prinzip¬ielles zu Lammens' Sirastudien " في (Der Islam ) المجلد الرابع ، ص 263 ـ 69 .
إنّ السِّمة الغالبة في النّقدِ المتقدّم هي " العودة للقُرْآن " . كون الأساس من أجل سيرة نقديّة في الأحاديث عديم القيمة عمليّاً ؛ ففي القُرْآن فحسب بوسعنا القول إنّنا نحوز على أرضيّة صلبة تحت أقدامنا . كما وضعها سنوك هورغرونيه ، الّذي خطا بالنّقدِ المتقدّم هذا:

بينما يمكن أنْ تكون آخر الأحكام هنا و هناك الّتي فحصت الأحاديث الإِسْلاَمية بكثيرٍ من الشّك و الارتياب صحيحةً ؛ فإنّه بغض النّظر عن ذلك يبقى مؤكداً على ضوء بحثهم ، إنَّ منهج الفحص لا يمكن أنْ يبقى بدون تغيير . و يتأتى علينا السعي إلى جعل شروحنا للقُرْآن مستقلةً عن الأحاديث ، و إذْ كان ذلك مستحيلاً فيما يتعلّق بأجزاءٍ ، فإنّه يتوجب علينا الشّك في الشّروح ، مهما كانت مقبولةً .

إذا ما كان القُرْآنُ مصدرنا الرئيس ، فإنَّ الإشكالية التّالية هي التحقق كم ثابتة هي الأرضيّة الّتي يوفرها . لقد كان من المعتقد بأنّنا هنا في مأمن على الأقل ، بيد أنَّ الأعمال المتأخرة مثل أعمال كازانوفا و مينانا ، جعلت معتمديّة هذا المصدر محل شكٍ ، لكنْ هذه مسألة كبيرة للغاية من أجل تناولها في الوقت الرّاهن .


المِيثُولُوجِي

لقد لاحظنا كيف أنَّه تمَّ استبدال صورة مُحَمَّدٍ التَّاريِخيِّة بالصّورة المثاليّة و الأسطوريّة . و بالإمكان رؤية عينات من هذه الصّورِ المبالغة في مُحَمَّدٍ في " حياة القلوب " ( ترجمة مِرريك ، بوستن ، 1850 ) ، و في " بُردة الشيخ البُوصيِرِيِّ " ، ( ترجمة ، باسِّت ، مع التعليق ، باريس ، 1894 ) . و من المثير ملاحظة أنّ التأثير المسِّيحيّ كان في أساس هذا التّطور الأسطوريّ ، و كان من الطبيعي أن يسعى الدارسون لاقتفاء أثر سيرورة تطور هذه الصورة ، و هي التي تعرفها غالبية العظمى من المسلمين اليوم . يعطي كويل في القسم الثّاني من مؤلَّفِه ، " مُحَمَّدٌ و المُحَمَّدية " ( لندن ، 1889 ) ، رواية مبسّطة للخطوط الأساسيّة في تطور الأسطورة ، لكن من أجل دراسة نقديّة لهذه الإشكاليّة على الدّارس أنْ يبدأ بمقال ميتز :
" Die Geschichte der Wunder Muhammeds " في Verhandlungen لمؤتمر الثاني حول تاريخ الدين ( بازِل ، 1905 ) ،
و مقال هوروفيتس :
" Zur Muhammadlegende " في (Der Islam ) المجلد الرابع .
و على أيّ حال فإنّ العمل العظيم فيما يتعلق بهذا الجانب للموضوع ، هو لـ " تور أندراي " :
" Die Person Muhammads in Lehre und Glauben Seiner Gemeinde " ( ستوكهولم ، 1918 ) .
إنّ خطوطاً أوليّة للمنهج مقدمة في مقاله :
" Die Legenden von der Berufung Muhammads " ، في ( العالم الشّرقيّ ، المجلّد السّادس ) ، لكنّه أَنجز في كتابٍ أوسع تفصيلاً تطوّ‍ر و تشعّب النَّبِيّ ـ الأسطورة ، و أظهر تناظراته بمفاهيم الرّجل الإلهيّ للمعتقد الدّينيِّ الزارادشتيِّ و الهيلينيِّ .


السِّيَرُ الآخرَوِيَّة

لقد أُشير مرراً بأنّ للصيغ الآخروية في القُرْآن نصيباً مهيمناً . فلا يمكن قراءة صفحات عدة دون مصادفة بعض الإشارات إلى نعيم المؤمنين المقبل في الجنّة أو عذاب الكافرين في الجحيم ، أو وعيد اللّه بحساب عسير للكافرين . و الأمر قد يبدو وَسْوَاسَاً لمُحَمَّد . و يشير الدكتور ماكدونالد :

إنّ المفهوم الّذي كان ينتاب مُحَمَّداً ، بأنَّ ثمّة يومَ قيامةٍ قادماً حيث سيُحاسب الجميع ، و أنَّ اللَّهَ هو الحاكم و الدّيّان في يوم الحسابِ هذا . و أنّ قليلاً من سينجو .

آنذاك كان شعور الكارثة غامراً لدى مُحَمَّدٍ . إنّ العالم الخفيّ ، الشيء المَهُوْل الّذي يثوي خلف هذا العالم الّذي نراقبه ، الّذي يسبِّبه و يعمل من خلاله ، كان قريباً بشكلٍ مرعبٍ . و عند كلِّ منعطفٍ كان يشعر بما صِيغ بشكلٍ جيدٍ " إحساساً بالغضب القادم " .
( Aspects, pp. 70, 62 ) .

وقد رأى بعضُ الكتّاب المعاصرين ، مثلاً ، كازانوفا و هوروفيتس ، أنّ ذلك هو مفتاح إشكاليّة شخصيّة مُحَمَّدٍ . و إنْ لم يتمّ فعلياً كتابة سِيرةٍ مُحَمَّدٍ على أساس هذه النَّظرة ، بيد أنّها طُبقت للهجوم على إشكالات فرديّة كثيرة ، و بالأخص تلك التي تنهض في محاولات التفسير القُرْآني . و قد تعزز الموقف بدراسة كازانوفا " Mohammed et la Fin du Monde " ( باريس ، 1911 ـ 1921 ) . حيث يدّعي أنّ سرَّ رسالة مُحَمَّدٍ ثاويٌ في الحقيقة أنَّ مذهبه الأساسيِّ كان بأنّ " الأوقات الّتي أعلن دانيال و يسوع عنها قد أَزِفت : لقد كان مُحَمَّد آخر نبيٍّ اختاره اللّهُ لكي يرأس سويةً مع المسيح الّذي سيعود إلى الأرض لهذه الغاية لدى نهاية العالم و الحساب الأخير ( م ن ، ص 8 ) . لقد كان يؤمن بثبات و يعلّم بأنّ مجيئه ، و نهاية العالم مرتبطان سببياً وأنه يجب أنْ يشهد الدَّمار النّهائيّ قَبْل موتِه . و عندما كان شبح الموت يطوف به ، و حينما كان يشعر بأنَّ سنيه تمضي ، كان يستبدُّ به همٌّ شديدٌ ، و من المعروف كذلك أنَّ أَدْنَى أتباعه آصرةً رفض في البدء تصديق نبأ موته . و يعتقد كازانوفا أنَّ بعض الظواهر الغريبة في القُرْآن يمكن شرحها بالحقيقة أنّه كان يتوجب إعادة تحرير الوَحْيِ بما ينسجم مع واقعة موته ، و أنّ أشياءً كثيرة في التّطور الإِسْلاَميِّ المبكّرِ لاهوتيّاً و من نواحٍ أخرى تعود إلى عين هذه النّقطة .


السِّيَرُ التّبريريّةُ

كنا قد أشرنا بأنّه في وقتٍ مبكّرٍ جداً من تجدد الاهتمام بالدِّراسات الشّرقيّة ، كتب بولينفييه رواية أجمل فيها ذكر مُحَمَّدٍ ، و التي استعملها غيبون لاحقاً . لم يكن عمله مرتكزاً على أيِّ دراسة دقيقة للمصادر الأولى ، و هذا ينطبق على عملَيْن تقريظِيَيْن شـهيرَيْن ، و نخصُّ بالذّكر منهما عمل كارليل ، في دراسـته " البطلُ نبيّاً " ، في " الأبطال و عبادة البطل " ، و عمل بوسورث سميث ، " مُحَمَّدٌ و المُحَمَّديّة " ( لندن ، 1873 ، الطبعة الثّالثة ، منقّحة و مَزِيدة ، 1889 ) . لقد طُبع مقال كارليل مجدداً ، و نشرته المدارس الإِسْلاَميّة في الهند على نطاق واسعٍ ، بوصفه يمثل أفضل رؤية إنجليزيّة حول مُحَمَّدٍ ، لكنّهم تغاضوا عن ذكر أنَّ كارليل استرد بالأخص كلَّ كلماته الجميلة في المقال من " البطل شاعراً " .

لقد كان من المتوقع أنْ يكون أئمة المدرسة الحديثة في الإِسْلاَم ذوي التّعليم الإنجليزي ، مجتهدين من أجل تقديم هذه المنافحات . لقد كتب كِلا الرئيسين من مدرسة أليغاره في الهند سيرةً تبريريّةً مستمدةً من وجهة نظر محددة . حيث نجدها لدى سيد أحمد خان في " مقالات بصدد حياة مُحَمَّدٍ و مواضيع إضافيّة أيضاً " ( أليغاره ، 1870 ) ، و سيد أمير علي في عمله " حياة و تعاليم مُحَمَّدٍ " ، و الّذي صدر لأوّل مرة سنة 1873 ، و لاحقاً كجزء أول في مُؤلَّفِهِ " روح الإِسْلاَم " ( الطبعة الأخيرة ، لندن ، 1923 ) . إنَّ حُكْمَ مارغوليوث بصدد هذه المدرسة وُجه بنباهة خاصة نحو عمل أمير علي :

يسعى هؤلاء المدافعون إلى رفض سيرة ابن إسحاق حيثما تصدم القراء الأوربيين ، و حينما لا يكون ذلك سهلاً ؛ فإنّهم يقترحون دوافع نبيلة ، أو يفترضون أنّ المسار الّذي اتبعه النَّبِيّ كان من أجل أنْ يصبح أقلَّ بغضاً لأولئك الّذين ينفتحون نحوه أحياناً . و على هذا النحو يُعلن بأنَّ تسامحه في مسألة تعدّد الزوجات كونه تقييداً مقروناً بالكبت الأقصى ، و اعتبر موقفه من العبوديّة تمهيداً يقود بالمثل إلى تحريرهم . بل إنه سـعى إلى ضرب مثلٍ على الزَّواج الأحاديِّ ، و مع أنَّ النتيجة لم تكن مقنعةً ، إلاّ أنَّ البراعة التي تطلبت من أجل ذاك كانت عظيمة للغاية .
(Encyclopedia of Religion and Ethics, volume 8, p. 878 ) .

و بالإمكان إيجاد مثال على محاولة صادرة من مدرسة مختلفة في عمل م. هـ . كيداوي " معجزة مُحَمَّدٍ ، مسبوقة بخطوط عامة لسيرَة مُحَمَّدٍ "( لندن ، 1906 ) ؛ لكنّ الأكثر تشويقاً هو العمل الأخير لمجموعة حداثيّة أُخرى ، في المجلّد الفاخر الصادر عن نادي باريس للكتاب مخصوص لألف مجموعة ، 125 من الرق اليابانيّ الإمبراطوريّ بسعر 18 جنيهاً للنسخة ، و 875 من ورق يدوي بسعر 8 جنيهات للنسـخة . وهذا هو كتاب رباعي ضخم بخمس و ثلاثين صورة ملونة و تزيينات زخرفيّة عديدة ، و معنون " حياةُ مُحَمَّدً ـ نبيِّ اللّهِ " ( باريس ، 1920 ) . و هو عمل مشترك للفنان الفرنسي إ. دينه و سليمان بن إبراهيم ، و يقصد به مناهضة ترجمات حياة مُحَمَّدٍ الافترائيّة و القدحيّة التي ظهرت في الأقطار الأوربية خلال مجرى القرون . " و قد أصدر المُؤلِّفانِ نفسـاهما كرّاسـةً بعنوان " L'Orient vu de l'Occident " ( باريس ، 1921 ) ، يطلقان العنان فيه لنقدٍ قويٍّ بيدا أنه مسالمٍ لأعمال لامِنس ، كازانوفا ، هورغرونيه ، و باحثين آخرين من مدرسة النَّقدِ المتقدّمِ .


الصُّوفيِّةُ

لدينا محاولة أكثر تأخراً تهدف إلى إعداد مبدإٍ جديدٍ لتفسير حياة مُحَمَّدٍ هي للبروفيسور ج. سي. أرشر في دراسـته العلميّة المطبوعة في سلسلة ييل الشـَّرقيّة ، و المعنونة " العناصر الصُّوفيّة لَدُن مُحَمَّدٍ " ( هافِن الجديدة ، 1924 ) . لقد شرع الكاتب بنقدٍ قويٍّ للنّظريّةِ البَاثُولُوجِيّةِ ، و بينا أقرَّ بأنّه يمكن أنْ يكون هناك عناصر بَاثُولُوجِيّة في حياته ، فإنّه شدّد على أنّ الأمر الجوهريّ في تجربته هو أنّه كان صُوفيّاً ، و لهذا فإنّ كتابه كان للبرهنة على أنَّ " مُحَمَّداً الصوفي هو شخصيّة أعظم مما كنا نحلم . " و زعم أنّ " مُحَمَّداً كان صُوفيّاً بالمعنى التّقنيِّ ، و أنَّ ذلك ، ليس في الموقف العقليِّ فحسب ، بل في الممارسة العمليّة " . لكنْ حينما ننظر إلى عرضه المذهل ، فإنّ كلَّ ما نجده هو تأويل مصفى لنصوص قُرْآنيّة قليلةٍ ، و أغلبها لسوء الحظِّ محل شكٍ ، و النّظريّة القائمةُ على أساس غيرِ وطيدٍ القائلة بتأثير الزُّهاد المسِّيحيّين في حياة مُحَمَّدٍ المبكّرة . و النّظريّة مبنيّة تقريباً بالكامل على القُرْآن ، و قد اضطر البحث الحديث إلى أنْ يُوضح بالتأكيد أنّه بالكاد يمكن الارتكاز على القُرْآن من أجل محاولات التّفسير النّفسيِّ . علاوة على ذلك و كما أشار ماسينيون: " يمكننا أنْ نؤكد بأنَّ بعض الآيات الّتي لديها دلالة صُوفيّة بالنسبة لقراء محددين ، لا يمكن أن تكون سوى اقتباس مبتذل بالنسبة لمُحَمَّد ". (R.M.M., lix. 337)

إنّ محاضرات ريتشارد بِل أمام جامعة إدنبره ، " أصلُ الإِسْلاَمِ في بيئته المسِّيحيّة " ( لندن ، 1926 ) هي آخر مسعى من أجل تزويدنا بوجهة نظر لتأويل حياة مُحَمَّدٍ و تعاليمه . إنَّ عمل بِل هو مجرد دراسة تمهيديّة ؛ إذْ يعتمد كليّاً على القُرْآنِ ، و لا يأخذ بعين الاعتبار الرّواية التقليديّة أو السِّيرة ، و يرى أنّه بوسعنا من القُرْآن نفسه إيجاد المبادئ الرئيسة الّتي ستقودنا لاحقاً عبر متاهة الأحاديث . و يعتقد بِل بأنَّ الإشكاليّة تكمن في أنّه عشيّة مجيء مُحَمَّدٍ ، أصبحت الأفكار الدينيّة الجديدة تتخلّل الجزيرة العَرَبِيّة ، لحدٍ ما من جانب اليهود و بالأعم من قِبل المصادر المسِّيحيّة ، التي أتت الجزيرة العَرَبِيّة من ثلاثة اتجاهات : نزولاً من سوريا إلى شمال غرب ، من الرافدين إلى شمال شرق و من الأعلى من الأحباش عبر جنوب الجزيرة العَرَبِيّة . وأحد براهين ذلك أنّ معظم المعجم الدّينيّ مستعارٌ إمّا من الأثيوبيّة أو السّريانيّة ، و حتّى المصطلحات اليهوديّة ، و المصطلحات الدّينيّة الفارسيّة الّتي جاءت من خلال السريانية . و على هذا النحو فإن : اللّه ، القُرْآن ، الفُرْقَان ، صلوات ، جهنّم ، جنّة ، فِرْدَوْس ، زكاة ، دين ، الخ ، كلّ تلك الكلمات من هذا المنشإ ، و الشّخصيات البارزة الّتي تتحرك على مسرح القُرْآن : إبراهيم ، يونس ، موسى ، عيسى ، إدريس كلها من مصدرٍ سريانيٍّ .
لقد كان مُحَمَّدٌ على اتصال مع عالم الأفكار الدّينيّة الجديد ، بقدر ما تعرّبت قَبل زمانه ، لكنّه اتصل لاحقاً بالمصادر اليهوديّة والمسِّيحيّة نفسها ، و يدّعي بِل أنّ بإمكاننا رؤيته كيف كان يكتسب تدريجيّاً المعلومات أكثر فأكثر حول هذيْن الدينَيْن ، و بالأخصّ حول المسِّيحيّة ، و يطّور تعاليمه جنباً إلى جنب مع تزايد المعرفة . و على هذا النحو يمكننا أنْ نجد أنّ المفردات الدِّينيّة للسّور الأولى محددة بما يمكن أنْ يكون مستمداً من الشّعر المبكّر ، و الكلمات ، التي تطبعت في العَرَبِيّة قبل مجيئه . و نجد في هذه الحقبة القليل عن الأنبياء أو طقوس الأديان العظمى . بعد ذلك صار يتعلّم و يستعمل المصطلحات الدينيّة الجديدة المُقتَرضة من المصادر المسِّيحيّة و اليهوديّة ، و شرع يتحدث عن الأنبياء . و من الجلي أنّه لم يكن يعلم في ذلك الوقت بأنّ اليهود و المسِّيحيّين ليسوا على رؤية واحدة . و فيما بعد اكتشف ذلك و تغيّرت لغته بسرعة . و بالتالي لن يفسره بِل صوفيَّاً و لا مصاباً بالسَّكْتَة الدِّمَاغِيِّة ، و لا حالةً بَاثُولُوجِيّة من أي نوع . نعم سياسيُّ ، لكن من طبيعة دينيّة ، الّذي كان يَشُقٌّ على نفسه غياب الدِّين لدى شعبه ، و أعتقد أنَّ مهمته هي إعطاء العرب نظير الرسالة التي أعطاها الأنبياء للشعوب العظمية المحيطة .

بالتأكيد يوفر لنا هذا نقطةَ بدءٍ واعدةً ، أفضل من أيّ واحدة اُقترحت حتّى الآن كي تنطبق على الحقائق البادية من القُرْآن ، ويمكن أن يوفر لنا التطبيق المُوحى من جانب بِل مفتاحاً للعودة إلى بحثنا عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ ، على الأقلِّ طالما بوسعنا أن نتوقع ذلك.

إنَّ النتيجة الّتي تتبدى لنا من استعراضنا القصير هي أنّه ما زال علينا الانتظار بعد من أجل القيام ببحث إضافيٍّ في المصادر الأولى، وإجراء نقاش أبعد و ذلك للسّماح ببلورة رأي بحيث يتم وضع أُسس سليمة ، قبل أن ينجز شيء كثير فيما يخص بناء السِّيرَة . و من الجدير بالملاحظة ، إنّ الباحثين الأكثر إطلاعاً على المصادر العَرَبِيّة قد اقتربوا أكثر من فهم حياة تلك المرحلة ، باحثون أمثال مارغوليوث، هورغرونيه، لامِنس، كايتاني، وهم الأكثر حسماً تجاه دعاوي مُحَمَّد النّبويّة، و يتوجب الاعتراف بأنّه كلّما سار المرء أبعد في دراسته الخاصة للمصادر ، كلّما صار صعباً عليه تفادي استنتاجات هؤلاء الباحثين.

  • عدد الزيارات: 22301