Skip to main content

مقدمة - لو لم يعلن الله لنا ذاته في كتابه لما أمكنا أن نستدل على الحقيقة بشيء

الصفحة 3 من 4: لو لم يعلن الله لنا ذاته في كتابه لما أمكنا أن نستدل على الحقيقة بشيء

ونستنتج مما تقدم أنه لو لم يعلن الله لنا ذاته في كتابه لما أمكنا أن نستدل على الحقيقة بشيء ومع وجود هذه التعاليم الصريحة المختصة به تعالى، نرى أن الإنسان لم يزل عاجزاً عن إضافة شيء على ما أجيء به من الله. بل أن مجموع ما قالته العلماء وما سيقولونه عن الذات الإلهية مؤسساً على فلسفتهم وعلمهم فكلمة الله وتعاليم يسوع تفوق أقوالهم بغير حد. إلا أن ما لا يمكن للإنسان أن يكتشفه بنفسه يجب أن يقبله ويؤمن به إذا أعلنه الله تعالى له. أما إذا رفض الإنسان ما أعلنه الله تعالى لكبريائه فهو يدين نفسه ويكون في نظر الله مسئولاً عن جهله وعماه بإرادته.
لا ننكر أنه توجد بعض المواضيع في كلام الله لا يمكن للإنسان بعقله الضعيف المحدود أن يدركها تماماً فالإنسان عاجز عن إدراك تلك الذات الحية الأبدية وتلك الحكمة الغير المتناهية والغير المحدودة فكل ما عنده من المعرفة والعلم مبني على ملاحظاته الخارجية واستدلالاته الداخلية.
مثال ذلك أن الإنسان يستدل على وجود الخالق مما يراه من القوة والحكمة الظاهرتين في الخليقة ومما يراه من الذكاء والمحبة والعدل والرحمة والصفات الأخرى الكثيرة الموجودة على نوع ما في أبناء البشر. فإذا نسبنا هذه الصفات بأكمل معانيها للخالق جل وعلا يمكنا أن ندرك بعض الإدراك معنى وجود هذه الصفات في الله تعالى. ورجال العلم عالمون أنه توجد في الخليقة الغير المنظورة وبالتالي في ذات الله المقدسة أمور مهمة عديدة ونقط مخصوصة يعجز الإنسان عن إدراكها تمام العجز لعدم وجود مثيل لها في هذه الدنيا المنظورة. وحتى لو أعلن الله لشعبه هذه النقط وتلك الأسرار الغير المدركة فلا يمكن للإنسان فهمها بل وغير ممكن لنا، ما دمنا في هذا العالم، أن نرى تلك الأسرار واضحة وجليلة إذ لا نرى لها مشابهات تقربها إلى فهمنا. مثلاً إنساناً مولوداً أعمى فهو بالطبع لا يفقه لنور الشمس معنى فإذا اجتهدنا بكل قوانا أن نصف له الشمس ونورها فغالباً لا يفهم الشرح ولا يدرك الشمس ولا نورها ولا قوة البصر في الآخرين. إلا أنه بما له من الحواس الأخرى ربما يمكنه أن يتصور شيئاً ضعيفاً جداً عن ماهية الشمس ونورها لكن لو أنكر بسبب عماه وجود حاسة البصر في غيره وأنهم يرون شيئاً لا يراه، فهل يُحسب إنكاره ذكاءً مفرطاً؟ كلا بل هو عين الجهل ومع هذا فجهله وعناده لا يبررنا إذا تركناه في خطر محيق به ولا نرشده إلى الطريق المستقيم.
واضح أن ذات الله المقدسة الغير المنظورة لا شبيه لها في الوجود ولذلك من الصعب علينا أن ندرك حتى معنى كلام الله في هذا الموضوع. ولكن لو لم تكن هذه المعرفة ضرورية لما كان الله، إله الحكمة والمعرفة، أعلنها لنا في كتابه ولكن حيث أن هذا التعليم الموجود في الكتاب المقدس عن لاهوت المسيح وعن سر الثالوث الأقدس في توحيد الذات الإلهية قد أعلنه الله على فم أنبيائه فهو نافع لنا جداً ولازم لنا تعلُمه. لا شك أن هذه الأسرار الإلهية فوق إدراكنا المحدود ولكن لا يجب أن يكون هذا سبباً في تصورنا أنه يخالف العقل. إن ذلك لا يمكن أن يكون لأن مُعلن هذه الأسرار هو الإله العظيم مُوجد العقل وخالقه. إن أنكر الإنسان هذه الأسرار بحجة أن العقل عاجز عن إدراكها فهو يشبه رجلاً أعمى ينكر وجود الشمس لأنه لا يراها ولا يمكنه فهم معناها. إن ذلك الذي ينكر الأشياء التي يعجز عن إدراكها عقله ويرفض كلام الله المقدس الذي هو فوق إدراكه يفضل عقله وعلمه على كلام الله تعالى. ذلك الإنسان بغطرسته وكبريائه يضع نفسه في مقام أعلى من مقام الله العلي العظيم وقد أغواه الشيطان ووسوس له أن الله ليس بأعظم منه في الحكمة والمعرفة حتى يعلن كلاماً يعجز عن إدراكه الإنسان (وقانا الله من شر هذا الكفر المبين).
إن في العالم أموراً كثيرة لا يقدر الإنسان على إدراكها فهل ينكرها ولا يؤمن بها لأنه لا يدركها؟ إن مثله يكون مثل ذلك الفيلسوف في الزمن القديم الذي ظن أنه حاز كل الحكمة في قوله "إني لا أعرف شيئاً قط حتى أني لا أدري أني لا أعرف" فهو غير شاعر بجهله. إن من لا يؤمن بشيء غير مُدرك هو بالضرورة ينكر وجود الخالق لأن ذات الله ووجوده هما فوق إدراك العقل البشري. كان يجب على ذلك الإنسان أن ينكر وجود نفسه أيضاً لأنه لم يفهم بعد ولن يفهم كيف أوجده الله في رحم أمه وماهية روحه وكيف ارتبطت بجسده. على هذا المبدأ كان يجب عليه أن ينكر حقيقة ألوف الأشياء التي ينظرها بعينه كل لحظة وظاهرة أمامه ظهور الشمس في رابعة النهار لأنه لا يدرك ذاتها أو قوتها الداخلية وفاعليتها الخارجية.
إن مثل المتكل على العقل دون الوحي مثل تلك الدجاجة التي صورها مصور واقفة وناظرة إلى ورائها حيث قشة البيض التي خرجت منها حالاً لاصقة بها وهي تقول "لا يمكنني أن أعتقد أني خرجت من هذه القشرة."
هل أمكن لأني إنسان عاقل أن يكتشف بقوة علقه كيف تصير الحبة الصغيرة شجرة كبيرة ومن هذه الشجرة يخرج ألوف من الحبوب ولها نفس قوة وفاعلية الحبة الأولى؟
بل مَن من الناس يمكنه أن يشرح أن نباتاً ينبت بتربة واحدة ويُسقى من ماء واحد ويستنشق هواء واحداً وتطلع عليه شمس واحدة ينتج أثماراً متنوعة وألواناً مختلفة وخواصاً متباينة؟
بل كيف يمكن لعين الإنسان الصغيرة أن ترى حتى الأفق؟ نحن نعرف كيف تقع الأشباح الخارجية على شبكة العين فترسم صورة لها ولكننا لا نعرف كيف تنتقل تلك الصورة إلى المخ إلا أن يكون العصب العيني يعمل عمل سلك التلغراف، ولما يصل إلى المخ تأثير الشبح الخارجي كيف ينتقل من المادي إلى نفس الإنسان الغير مادية فيقول أنا نظرت كذا؟ هذا ما لم يمكن لأحد إلى اليوم أن يفسره. فهل يعتبر المسلم أو المسيحي الرجل عاقلاً إذا كان لا يعترف بوجود حاسة البصر في الإنسان لأنه لا يمكنه أن يعللها؟
كذلك الطعام الذي نأكله إن كان صحياً وكان جسمنا سليماً فلابد أن يكون هذا الطعام مقوياً لأجسادنا منعشاً لها معطياً كل عضو القوة التي يحتاجها.
والأطباء اليوم يفسرون عملية الهضم ويشرحونها شرحاً وافياً ولكنهم هل يجهلون أن عملية الهضم قد سارت سيرها الطبيعي قبل أن يعرفها أولئك الأطباء بألوف من السنين ولكن ماذا تظن في رجل يقول أنه لن يذوق لقمة قبل أن يفهم عملية الهضم تماماً!
قد حار العلماء قديماً مدة قرون طويلة في الأرض والشمس والنجوم التي رغماً من حجمها وثقلها الهائلين بقيت معلقة في الفضاء تدور دواماً بانتظام لا تبتعد عن الطريق المعين لها من يوم خلقتها قيد شبر. أما الآن فقد توسع الناس في درس علوم الفلك وتوصلوا إلى معرفة نظامها وهي مازالت محفوظة بقدرة الخالق. وإن معرفتنا هذه الأجرام ليست متعلقة بمعرفة نظامها ولا تساعدنا في فهم غرض الله في خلقها وسنة لها قوانين لا تتعداها. فهل يبررنا عقلنا بعدم الاعتقاد بدوران الأرض حول الشمس لأننا لا نفهم تماماً خاصة حفظ هذه الأجرام لقوانينها وسر الجاذبية في النظام الشمسي؟

إن في موجودات الله أسراراً كثيرة غامضة لا يؤمل عقل الإنسان في هذه الدنيا إدراكها تماماً
الصفحة
  • عدد الزيارات: 12123