Skip to main content

تأثيرات الحُنفاء على الإسلام - تأثير محمد في ديانته

الصفحة 5 من 5: تأثير محمد في ديانته

وقد يتصدى إنسان للرد على ما ذكرتُه في هذا الفصل وفي غيره من فصول هذا الكتاب السابقة قائلاً: إذا فرضنا أن مصادر الإسلام التي أوردها المعترضون هي المصادر الحقيقية له، فلا يكون لمحمد أثرٌ في كل ديانته، وهذا غير ممكن. قلنا في الرد على ذلك: إن المعترضين على الإسلام يقولون إنه لما شرع محمد في إيجاد دينه فلا بد أن تظهر ميوله وصفاته في هذا الدين، لأن البنّاء أو المهندس إذا بنى بيتاً من حجارة متنوّعة من اللَّبِن وقوالب الأجُرّ فلا بد أن تظهر كفاءته في تنظيم هذه المواد بأن يجعلها في ترتيب محكم، ولا بد من ظهور غاياته ومهاراته في البناء الذي يشيِّده. فهكذا يُقال في الديانة الإسلامية.. لقد تشكلت بشكل يختلف عن سائر الأديان من وجوه كثيرة. فنقول بناءً على هذا إن باني أو مهندس هذا البناء كان عاقلاً مقتدراً. ويستدل على فصاحة محمد من فصاحة عبارات القرآن. وبصرف النظر عن كل هذا ففي القرآن آثار وقرائن تدل على الحوادث والوقائع التي حصلت في تاريخ محمد. مثلاً كان محمد قبل الهجرة بلا سطوة دنيوية، فلا ترى في الآيات التي كتبها قبل الهجرة ذكراً للجهاد لنشر دعوته وتعميم ديانته. ولكن بعد الهجرة لما صار سكان المدينة من أنصاره أذِن أولاً لأصحابه بالكفاح والحرب للدفاع عن أنفسهم، فورد في سورة الحج 22:39 و40 «أذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا.. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله». وقال ابن هشام في سيرة الرسول (جزء 1 ص 164) عن عروة وغيره من أصحاب محمد أن الإذن بالحرب أولاً في هاتين الآيتين. وثانياً: لما انتصر محمد وصحابته في جملة غزوات تغيَّر هذا الإذن إلى فرض وأمر واجب، فورد في سورة البقرة 2:216 و217 «كُتب عليكم القتال وهو كره لكم.. يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل» ومعنى هاتين الآيتين أن الواجب على المسلمين أن يكافحوا ويلزموا قريشاً على عدم التعرض لهم ومنعهم عن السفر إلى الكعبة. وثالثاً: لما هزم المسلمون في السنة السادسة من الهجرة بني قريظة وبعض طوائف اليهود الأخرى، شدَّد في الحض على الجهاد، كما ذكر في سورة المائدة 5:33 «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم». قال المفسرون إن هذا الأمر يختص بما يجب معاملة عبَدة الأصنام به، ولا دخل له في معاملة اليهود أو النصارى. ولكن بعد هذا بعدة سنين وُضعت القوانين التي يجب على المسلمين مراعاتها نحو أهل الكتاب، وذلك في السنة الحادية عشرة بعد الهجرة، قبيل وفاة محمد. ورابعاً: فُرض على المسلمين في سورة التوبة 9:5 و29 (وهي آخر سورة نزلت) أن يبدأوا بالحرب بعد الأربعة الأشهر الحرام «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».

وتدفعنا قواعد القرآن الست أن نقول إن إرادة الله الحكيم المنزه عن التغيير تغيَّرت بالنسبة إلى فوز محمد وانتصار أصحابه في الحروب وفي تقدُّمهم بالتدريج المكلل بالانتصار. ويظهر ذلك بجلاء فيما قرره فقهاء الإسلام أن بعض آيات القرآن منسوخة وبعضها ناسخة، فجاء في سورة البقرة 2:106 «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير». وسبب ذلك أن محمداً كان يرجو أنه إذا خلط أديان اليهود والمسيحيين وبعض فروض دينية عند العرب تيسَّر له أن يؤلف ديناً يدين به جميع سكان جزيرة العرب، فيصبحون أمة واحدة. فبذل غاية جهده ليجذب إليه هذه الطوائف المختلفة كلها وهذه الملل المتنوعة المتفرقة «ويجمعهم إلى أمة واحدة» من أتباعه. ولكنه لما فشل هذا المسعى عزم على استئصال اليهود والمسيحيين لقطع دابرهم أو نفيهم من بلاد العرب، كما هو واضح من منطوق القرآن.

ويظهر زيادة على ذلك مما ورد في سورة الأحزاب 33:37 و38 بخصوص زينب امرأة ابنه بالتبنّي زيد أن صفات محمد وأطواره أحدثت أثراً مهماً جداً في القرآن، وهذا واضح مما ورد في القرآن والأحاديث بخصوص تعدد الزوجات.

ولا شك أن مجموع المواضيع والمطالب والتعاليم المدونة في القرآن والأحاديث هي مثل أنواع وأقسام مياه آتية من أنحاء شتى ومن ينابيع متفرقة فتجمعت إلى بحيرة. غير أن الإناء الذي أكسب هذه المياه المتجمِّعة شكلها وهيئتها هو عقل محمد ونفسه وسجيته وطبيعته.

ولا ينكر أن كثيراً من التعاليم الواردة في القرآن، ولا سيما التعاليم المختصة بوحدانية الله القدوس، مفيدة ونافعة. ولا ننكر وجود بعض الصدق والفائدة في الأقوال المختصة بالميزان والجنة وشجرة الطوبى. ولكن من أراد أن يشرب ماءً رائقاً نقياً لا ينبغي له أن يرد مورد الماء المعكر، بل عليه أن يرد ينبوع نهر ماء الحياة الذي كثيراً ما يشهد له القرآن نفسه. وهذا الينبوع هو كتب الأنبياء والحواريين التي قال عنها القرآن: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور.. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين» (المائدة 5:43-48). فشهادة القرآن هذه للكتاب المقدس (أي التوراة والإنجيل) تغافل عنها المسلمون ونبذوها في زوايا النسيان أو أهملوها وأوَّلوها وصرفوها عن أذهانهم، ولكنها أهم أركان تعاليم القرآن. وزد على هذا أن محمداً حضَّ أتباعه على التمسك بدين إبراهيم خليل الله. ومن أراد معرفة دين إبراهيم وجب عليه أن يستقصي توراة موسى، فيرى فيها أن الله وعد إبراهيم أن يجيء المسيح من نسله ومن نسل إسحق ابنه، وهو المخلِّص الوحيد. وقد اعتمد إبراهيم على هذا الوعد وآمن بالمخلِّص الموعود فنال خلاصاً، ودُعي خليل الله (رسالة يعقوب 2:23). ولتأييد صدق كلامنا نورد بعض آيات من الكتاب المقدس: ورد في شريعة موسى في سفر التكوين 17:18-21 أنه قبْلَ مولد إسحق كان إبراهيم قد شاخ، وطلب من الله أن يقبل إسماعيل وارثاً للوعد قائلاً: «ليت إسماعيل يعيش أمامك» فرفض الله هذا الطلب، وإن كان قد وعد بأن يبارك إسماعيل بالرخاء الدنيوي، وقال لإبراهيم: «بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده. وأما إسمعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. إثنا عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة. ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في مثل هذا الوقت في السنة الآتية». (أما الاثنا عشر رئيساً فنجد أسماءهم في سفر التكوين 25:13-16). وقال الله لإبراهيم ثانية: «يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي» (تكوين 22:18) (يعني لأنك رضيت أن تقدم ابنك إسحق ذبيحة لله). وقال المسيح لليهود مشيراً إلى هذا الوعد وإلى اعتماد إبراهيم عليه: «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح» (يوحنا 8:56). وقال بولس الرسول بالوحي الإلهي: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول: وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحدٍ: وفي نسلك الذي هو المسيح.. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورثة» (غلاطية 3:16 و29).

نطلب من الرحمن الرحيم الهادي الحكيم الذي أنجز وعده الأزلي بأن أرسل المسيح فوُلد من ذرية إبراهيم ومات عن خطايانا وقام لتبريرنا أن يوفقنا جميعاً للتمتع بهذا الخلاص العظيم والميراث الثمين فنحظى بالمجد الدائم والابتهاج الكامل بفضل نعمته وكرمه وفضله. إنه القدير على الإجابة. آمين.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 12614