Skip to main content

تكفيك نعمتي - حاصرني وهزمني

الصفحة 7 من 12: حاصرني وهزمني

الفصل السادس

حاصرني وهزمني

دفعتني مواجهتي مع السيدة العجوز في تلك الليلة المشئومة أن أعزم على ألاَّ أزهق أي روح بشرية. واستقلتُ من حركة الحرية . لقد هالتني فظاعات الحرب على اختلاف أنواعها وما تتمخض عنه. كنت عند مفترق الطرق، لا أعرف أين أذهب. وساورتني الشكوك والمخاوف، وأهمها أني سأموت وأذهب إلى جهنم، وليس من مصير آخر! أنا الذي لم أعرف الخوف منذ كان عمري تسع سنوات ملأني الخوف من عقابٍ أستحقه. وساورتني الشكوك في وجود الله. ماذا إن لم يكن هناك إله؟ عندئذ لا أُعاقب على أفعالي الأثيمة، ولا داعي للخوف مطلقاً! لقد شهدتُ الدمار والخراب حولي، ولا يمكن أن يكون لله يدٌ في هذا. ورفض ضميري أن يستسلم للكفر. إنه يصيح بأعلى صوت: حقاً هناك إله، فوجود الكون برهان على وجود خالقٍ له. وربما ليس لله دخلٌ مباشر فيما يحدث لخليقته. ولكن لو صدق هذا لكان إلهاً ضعيفاً أو غير مبالٍ، وهذا مستحيل! قال الفقهاء إن الله شرَّع قتال الكفار والمشركين. لكن كيف يكون هذا وهو الذي خلقهم؟ الأجدر به أن يتوّبهم عن كفرهم وشركهم. ومن يدري؟ ولو رضي سبحانه بقتل البشر لوقعت عليه كل المسئولية، لأنه وهب الإنسان حرية الإرادة في المقام الأول. حينما قتلتُ الكفار شعرت أن ذلك أمرٌ إلهي. وكان من السهل عليه أن يتحكم في إرادتي ليحقق مقاصده. وكمسلمٍ تقيٍ آمنت أني أفعل الصواب حين لبَّيْتُ نداء المسجد للانضمام في الجهاد. سلمتُ أمري )فالإسلام يعني التسليم( لذلك لا تقع عليَّ أية مسئولية في ما اقترفته. وإن لم أكن مسئولاً فلا حاجة بي للشعور بالذنب أو استحقاق جهنم. فإن لم أكن مذنباً فلا مبرر للتوبة. وربما كان الخطأ يطوِّقني من رأسي إلى قدمي، لكن الله أكبر من ضميري. كلما فكرت بشأن هذه الأمور ازددتُ غماً وحيرة. كان ذهني يتخبّط ويموج بالأفكار المعذبة في تيهانٍ تام. لم يكن ثمة بصيص من النور ليضيء حياتي. كنت أحياناً أرقد مستيقظاً مفكراً، لا يأتيني النوم إلا بعد جهد. ربما عليَّ أن أتوقف عن التفكير. ربما كل الأديان اختلاقاتٌ من صنع الإنسان قام بها من يريدون أن يُشعِروا الناس العاديين مثلي بنقصهم.

لا بد أن هناك جواباً، ولابد أن أصل إليه، ولكن ليس من مجيب. أذكر أني هجرت الطعام سبعة عشر يوماً وأنا في اضطراب داخلي، فاغتمَّت أمي المسكينة لأجلي وتوسلت قائلة: أخبرني يا ابني ما مشكلتك، وسأساعدك . لكن لا يستطيع أحدٌ مساعدتي. كنت بائساً لأجل التعاسة التي سبَّبتُها لغيري، وليس بيدي حيلة. أحياناً كان يخترق ضوء خافت هذه الظلمة الحالكة، فأرى أن الحياة ليست بلا معنى. هناك إله، فالنظام البديع في هذا الكون يُظهر عظمة القوة المسيطرة التي يقف أمامها العالم كله والإنسان موقف المسئولية، فلا يقدر إنسان أن يفعل ما يحلو له دون تفكير في العواقب. ازددت إصراراً على أن أعثر على هذه القوة أو الله وأصطلح معها. أيضاً بدأت أخشى على اتزاني العقلي. كنت معتزلاً عمن أحبوني وأحببتهم.

وفي بداية مايو )أيار( 1949 غادرت البيت بهدوء، ولم أكن أعلم إلى أين أذهب. كانت لديَّ رغبة جامحة في العثور على السلام. فقد قابلت أناساً على وجوههم السلام الذي كنت أسعى إليه، ولم أبذل جهداً لأسلك مسلكهم، ولا أزال مسلماً.

وصممت أن أفحص الإسلام بدقة أكثر، لأن الإنسان الذي يترك دينه لأسباب واهية هو المجنون، ولا سيما إذا كان دينه هو الإسلام. لم أتردد في قبول الشطر الأول من الشهادتين وهو أنه لا إله إلا الله . وبالنسبة لي لا يمكن أن يكون سوى إله واحد. وتتضح روعة هذا الاعتقاد حينما ننظر إلى الحالة الدينية التي سادت الجزيرة العربية قبل الإسلام، فقد كان العرب مشركين لديهم 360 صنماً في الكعبة، وكانت بدعة اللات والعزى ومناة ركناً أساسياً في عبادتهم. وجاء محمد معلناً أن الله هو الإله الوحيد وهجر الشرك. ومع ذلك سألت: هل يمكن أن يمنحني الإسلامالسلام الذي أبحث عنه، وهو يقول إن الله يأمر أتباعه أن يشنّوا الجهاد على المشركين والكفَّار. وكان الاشتراك في الحرب هو الذي أدَّى بي إلى حالة القنوط التي أنا فيها الآن. تعمقْتُ أكثر، ووجدتُ أن الإسلام يعلّمنا أننا يمكن أن نأمل في الغفران بعد الموت إذا عملنا الصالحات، لكني أردت الغفران الآن والسلام والطمأنينة في هذه الحياة. ولم أشأ أن أحيا بقية حياتي على أملِ غفرانٍ قد أناله بعد الموت وقد لا أناله، فهذا لا ينقذني من المأزق الحاضر.

فضلاً عن ذلك وجدت أنه من العسير أن أحترم الفقهاء أو أن أنصت إليهم. كان والدي يقول لي: أغلب المشايخ فاسقون. استمع لما يقولون لكن لا تقْتَد بهم. إنهم يرسلون الأبرياء إلى حبل المشنقة، كما قتلوا ذلك الزاهد منصور. احترمهم لكن لا تثق بهم. وابعدهم عن بيتك ما أمكن . قال أبي ذلك في وقت أُخذت فيه امرأة مشكوك في أمرها من بيت رجلٍ كان يستظهر القرآن كله بالعربية، ولم يمنعه حفظه القرآن من الفسوق. دفع هذا والدي إلى عدم الذهاب للصلاة جماعةً بالمسجد في يوم الجمعة. أما الناسك منصور فقد عاش في القرن العاشر، وحُكم عليه بالموت في بغداد، لأن المسلمين اعتبروه هرطوقاً مجدِّفاً لأنه قال: أنا حق فقد كان صوفياً متقدماً في تصوّفه، فأعلن اتحاده التام بالله. وبالنسبة لوالدي )الذي كان صوفياً( لم ير في قول منصور مشكلة، فقد قال شاعر فارسي متصوِّف:

رجال الله لا يصبحون أبداً آلهة

لكنهم لا ينفصلون عن الله أبداً

ولما تأملت في كلمات والدي فكرت في التصوُّف كطريق للسلام، فبالنسبة للصوفي كانت الطاعة التي يطالب بها الإسلام من خلال السلوك البشري الخارجي أمراً ثانوياً. أما الأمر الأساسي فكان استجابة الإنسان الخاشعة لله، إله المحبة، فقد آمنوا بالاتصال المباشر بالله. وهنا فكرتُ أن هذا كل ما أشتهيته .

واتَّضح لي أني أحتاج إلى المساعدة، فقد كان بحثي الفردي بلا جدوى. وبالتالي قضيتُ الليالي يقظاً عند أضرحة متعددة في رفقة كثيرٍ من الأولياء. ومع ذلك كلما ازددت اصطحاباً لهم زاد أسفي، فقد وجدتهم متورطين في أنشطة تقشعر الأبدان لمجرد ذكرها. مع ذلك لم أستسلم ببساطة، واشتركت مع مجموعة مسلمين منغمسين في المخدرات والموسيقى والرقص بهدف الوصول إلى حالة الوعي الصوفي بالله. إلا أن هذا كان بلا طائل، ولم ينفعني بشيء، بل زاد من حيرتي. وانتهى بحثي عن السلام بخيبة أمل كبيرة. وفي قنوطي تذكرت ما جاء في سورة الفاتحة 1:6 و7: ا هْدِنَا ا لصِّرَاطَ ا لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ا لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ا لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. آمين . ويُقصد بالصراط المستقيم إيمان الإسلام. وهو أيضاً جسر ضيق جداً يعتقد المسلمون أنه قائم على فوهة جهنم. فالمسلمون الصالحون يعبرونه آمنين، أما الآخرون فيقعون في النار.

وما إن فقدت كل ثقتي في الشرائع البشرية حتى شعرت أنه لابد أن يكون هناك طريق آخر للنجاة. وواظبت على الاستيقاظ مبكراً أتضرع إلى الله أن يهديني. ومن أعماق قلبي صرخت طالباً المساعدة الروحية: يا إلهي القدير، بك أستجير. يا من خلقت السموات والأرض فأحسنت الخلق وقدَّرت الرزق وما أعجزك التدبير. أسألك بكل اسم سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خلْقك، أو استأثرْتَ به في علم الغيب عندك، أن تشرح لي صدري وتيسّر لي أمري وأن تهديني سواء السبيل. يا أرحم الراحمين، يا رب المستضعفين، نجني من سوء الظن بك، والعمل إلا لك. اللهم هذا حالي لا يَخفى عليك. أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك. ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ قضاؤك. فأرني الحق حقاً وارزقني اتِّباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه. إنك نعم المولى ونعم النصير .

ولا أتذكر التاريخ، لكنها كانت الثالثة أو الرابعة صباحاً وأنا أؤدي صلاتي كالمعتاد. وكنت في حجرة الانتظار في محطة سكة الحديد حينما قلت هذا الدعاء بالتحديد. وفجأة تحسَّسْتُ شخصاً ما خلفي وقد وضع يده الحانية على كتفي قائلاً: تكفيك نعمتي . قال هذا ثلاث مرات. وشعرتُ كأن صدمة كهربية سرت في أوصالي فزال الثقل على الفور من على ذهني، وغمرتني نشوةٌ من القوة والطرب. وكان الشعور بالغفران والمصالحة حقيقياً جداً. وبطربٍ جذلان بدأتُ أردّد ما قاله لي: تكفيك نعمتي . لم أشعر بمثل هذا الفرح الغامر من قبل، وحقاً كان سماوياً.

وكان هناك عامل سكة حديد ينظف على مقربة من المقعد الذي كنت أجلس عليه، لاحظ فرحي فسألني: هل أنت مسيحي؟ ولما هززتُ رأسي بالنفي اندهش قائلاً: فلماذا تردد: تكفيك نعمتي؟ . فأجبته: كل ما أعرفه أن شخصاً قالها لي، وأراني ألواحاً كُتبت عليها كل أعمالي الشريرة. لكن بمسحة واحدة من يده عادت تلك الألواحُ نظيفةً بيضاء. ومنذ تلك اللحظة شعرت كأني إنسان جديد، وزال عن كاهلي وروحي ذلك الحِمل الثقيل، وقلبي يريد أن يغني بصوت مسموع . وهنا أجابني الرجل: ينبغي أن تشكر الرب يا ابني لأجل هذا الخلاص. فالرجل الذي أتى إليك كان الرب يسوع المسيح، وقد قال هذه الكلمات للرسول بولس. لا أعلم أين بالتحديد، لكني أعلم أنها مكتوبة في الإنجيل الطاهر. والرب يسوع يريدك الآن أن تصبح خادمه . فسألته: كيف يا سيدي؟ كيف أصبح خادمه؟ . فأجاب: تعمَّد باسم يسوع المسيح واتبعه في الحال . سألته: أخبرني بالتحديد ماذا أفعل. لقد بلغتُ نقطة انعطافٍ في حياتي . فأجاب: يا ابني لا أعرف أكثر من ذلك. كل ما أعرفه أنه إذا سافرت إلى إيسانجري فهناك قسيس اسمه رومال شاه، سيساعدك . وأسند عامل النظافة العجوز مكنسته إلى الحائط، واقترب أكثر مني وعيناه تترقرقان بالدموع. عانقته وبكى كلانا بحرارة، وأطلقنا العنان لعواطفنا العميقة. ولبرهةٍ قصيرة تساءلت: هل هذا الرجل مطلوب للقتل لأنه مشرك؟ .. وكرهتُ هذا التساؤل وصرفته من فكري، وغمرني التأثر أن الله المحب أرسل هذا الرجل، ابن الطبقة المحتقرة، بل أقل الطبقات ليرشدني إلى الخطوة التالية.

وظلت الكلمات تكفيك نعمتي ترن في أذنيَّ حتى ركبت القطار إلى إيسانجري . انتهى الاضطراب أخيراً ووصلت إلى السلام. يا لها من غبطة غمرتني فلم يقدر ذهني أن يستوعبها كلها. الرب يسوع الذي خلَّص حياتي من الموت الجسدي، واعتنى بي في مرضي، وأراني تضحيته، وكشف لي عن نعمته الكافية تماماً، قد غزا قلبي الآن وانتصر! لن أتوه بعد اليوم في العالم وأنا أفتش عن معنى الحياة، فقد وجدته! لقد وجدت المسيح، بل وجدني المسيح الذي يصالحنا مع نفسه. هو لي وأنا له.

رحلتي مع المسيح
الصفحة
  • أنشأ بتاريخ .
  • عدد الزيارات: 17131