Skip to main content

أبناء الله - برسالة المحبة المسيحية صار الأساس مختلفاً

الصفحة 2 من 3: برسالة المحبة المسيحية صار الأساس مختلفاً

وبرسالة المحبة المسيحية صار الأساس مختلفاً. لم تعُد شريعة موسى كافية، بل المطلوب شيء أعظم من طاعة الشريعة بكثير. المطلوب منك نفسك كلها - هذا ما يعلمنا الكتاب - لا أفعالاً محددة، أو طقوساً، أو اجتناب محرمات فحسب، فكل الفضائل من غير المحبة لغو!

هكذا حرِص بولس الرسول في الأصحاح الثالث عشر مِن رسالته الأولى إلى كورنثوس أن ينبّه المؤمنين بالمسيحية إلى المحبة، كي يفطن إليها من أُوتوا ذلك اللمح العقلي والروحي، فيقول: تشّوَقوا إلى المواهب العظمى، وإني أدلّكم على أفضل الطريق الأفضل: لو تكلَّمتُ بلغات الناس والملائكة، ولم تكن لديَّ محبة، فما أنا إلا نحاس يطن وصنج يرن .

بل يمضي بولس إلى ما هو أكثر من هذا. يمضي إلى النبوة نفسها وإلى الإيمان الكامل، فيقول إنها ليست شيئاً بغير المحبة! ولو وُهبَت لي النبوة، وكنتُ عالماً بجميع الأسرار، عارفاً كل شيء، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولم تكن لي المحبة، فما أنا بشيء! .

فإذا سألت الرسول بولس: ما هذه المحبة التي عنها تتكلم وفيها تُطنب؟ فلا يجد الرسول تعريفاً لِما هو بديهي بسيط، فيعرِّف المحبة بنفسها! فحسبك أن تقول للبصير النور حتى يدرك ما تعني، لأن لديه خِبرةٍ مباشِرةً بالنور! أما مَن تقول له النور فيسألك ما هو؟ فلا حاجة بك إلى أكثر من هذا الجواب لتعرف أنه كفيف، فتلجأ إلى الشرح، لعله يفهم شيئاً مما تعني. وهذا ما لجأ إليه الرسول بولس في شرح رائع: الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ، الْمَحَبَّةُ لَا تَحْسِدُ. اَلْمَحَبَّةُ لَا تَتَفَاخَرُ، وَلَا تَنْتَفِخُ، وَلَا تُقَبِّحُ، وَلَا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلَا تَحْتَدُّ، وَلَا تَظُنُّ السُّؤَ، وَلَا تَفْرَحُ بِالْإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لَا تَسْقُطُ أَبَداً" (1كورنثوس 13: 1-8).

هذه تعريفات بالصفات لا بالذات، وبالعرض لا بالجوهر. وإذ يكلم الرسول بولس مؤمنين استناروا بروح الله، لا يتردد في أن يقول لهم: الإيمان والرجاء والمحبة هي الثلاثة الباقية (وما عداها زائل). وبحسم قاطع يردف بقوله: وأعظمها المحبة! فاطلبوا المحبة وتشوَّقوا بعد ذلك إلى المواهب الروحية. وهو موقف يستأهل أن نتريَّث عنده. ذلك أن الذين لم يوهبوا نعمة المحبة، أي الذين لم تصبح المحبةُ طبيعتَهم الجديدة في المسيح، أشبه بمن ليست لهم أذن موسيقية . قد يرون أن تعلُّم الموسيقى مما يجدر بهم، فيقضون ليلهم ونهارهم في التدريب على العزف. ولكن مهما فعلوا لن يكون ما يخرج منهم فن، لأن الفن عطيةٌ إلهية وسليقةٌ طبيعية وحسٌ صادق.

إن أقصى ما يقدر عليه هؤلاء هو الاجتهاد، ولكنهم في ضلال إن حسبوا ذلك أن يُوصّلهم إلى شيء بغير الموهبة الأصلية. وقصاراه أن يخلق قيمة مزيَّفة وبِرّاً مصنوعاً، له من البر مجرد مظهره وحَرْفه، ولكن ليس له جوهره وروحه! مثل هؤلاء يدورون في فلك الحرف . والحرف يُميت، ولكن الروح يُحيي كما يعلّمنا الكتاب (2 كورنثوس 3: 6). ومن قصاراهم أن يدوروا في فلك الحرف أي ظاهر أعمال البر التي توصف لهم، فيجتهدون في تنفيذ الشريعة، أي شريعة تحدد لهم أفعالاً محمودة يطيعونها لأنها أوامر وزواجر. ولذا نجد بولس الرسول لا يتردد في تلويم الشريعة التي هي أمر وزجر ليس غير، فيقول إنها: خدمة الموت المنقوشة حروفها في حجارة (2 كورنثوس 3: 7) والناس بهذه العقلية المظهرية، وبأفعالٍ تصدر عن خوف لا عن محبة قد يفهمون تعاليم البر فهماً حرفياً سطحياً، فالسيد المسيح يقول لغنيٍّ يريد أن ينجو بنفسه: إذا أردتَ أن تكون كاملاً فاذهب بِعْ ما تملكه وتصدَّق بثمنه على الفقراء، فيكون لك كنزٌ في السماء، وتعال اتبعني . فاستصعبَ الشاب النصيحة، فقال المسيح له: الحق أقول لكم: يعسُر على المتّكل على الغِنَى أن يدخل ملكوت السموات. وأقول لكم: لئن يدخل الجمل في سم الخياط أيسر من أن يدخل الغني ملكوت السموات (مرقس 10: 17-27).

فما تراهم يفعلون بفهمهم الحرفي؟ قصاراهم أن يقسموا أموالهم بين الفقراء، يظنون أن ذلك العمل بِحدّ ذاته بِرٌّ ولكن بولس الرسول يصيح لهم محذّراً مخيّباً آمالهم: وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَل كِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَا أَنْتَفِعُ شَيْئاً (1كورنثوس 13: 3).

أيعني ذلك أن الفعل بذاته ليس شيئاً؟ بلى!

لا قيمة للثمرة إلا أن تكون طبيعية، أي نتيجة نمو طبيعي من بذرةٍ في جوف الثرى أنبتت ساقاً وأوراقاً وزهراً فثمراً. الباعث هو الأساس، ولا بناء بغير أساس. إن الثمر الصالح هو الذي تؤتيه شجرةٌ حية، من شأنها أن تثمر مثل ذلك الثمر باضطراد.

إن العمل الصادر عن النفس، قيمته أنه تعبير عن مدلولٍ باطن وفطرةٍ نبيلة، وليست قيمته في ذاته. وبذلك ترتدُّ القيمة إلى موضعها الصحيح. إنها للإنسان، لا للفعل الجامد المقطوع عن بواعثه.

فما أكبر الفرق بين فعلٍ لا يصدر عن باعثٍ حي وشعورٍ جيّاش، وبين فعلٍ تدعو إليه النفس وتجد تحقيقها وراحتها فيه. وكل قيمة للفعل بغير الباعث السماوي هي ظاهرةٌ صوتيّة وعلى ذلك تكون هباءً وغباراً. وإن تكن مقصودة فهي نفاقٌ ورياء! هذا ما يقدمه ويعلّمه الكتاب .

ويدخل في عِداد البِرّ المزيَّف أو الخير الميّت غير النابع مِن تطّوُع النفس المُحِبَّة، ذلك النمط مِن الفضيلة الذي يستحق اسم الفضيلة المأجورة طمعاً في ثواب أو رهبةً مِن عقاب. وحيث يكون الفعل غير خالص لوجه الخير لا يكون الفاعل إلا عبداً يسلك سلوك العبيد، يغريه الطمع، ويردّه الفزع. يحيا في خوف من النقمة أو من فوات النعمة. لهذا يقول الكتاب في معرض الحديث عن الشريعة إنها خدمة الموت المنقوشة حروفها على حجارة . أما عن النعمة فيقول: لا خوفَ في المحبة، بل المحبة الكاملة تنفي الخوف، لأن الخوف يعني العقاب، ومن يخَفْ لم يكن كاملاً في المحبة (1يوحنا 4: 18)

ولا عجب! فالخوف من صفات العبيد وأما المحبة فمن صفات الأبناء.

إن تعليم الكتاب عن الحب والمحبة ليس سهلاً
الصفحة
  • أنشأ بتاريخ .
  • عدد الزيارات: 7664