الكيفية التي انتصرت بها الديانة المسيحية في القرون الأولى
الكيفية التي انتصرت بها الديانة المسيحية في القرون الأولى
لما بدأ المسيح يكرز بالإنجيل اختار من بين أتباعه اثني عشر رجلاً علّمهم الحق ودرّبهم على التبشير، وكان هو الحق، فبمجرد وجودهم معه ومعاينتهم أعماله ومعجزاته وسماعهم أقواله وتعاليمه عرفوا الحق بمعنى أنهم عرفوا الله في شخص المسيح بأنه الآب السماوي القدوس الصالح (يو 14 :6-10 و17 :3) ودعاهم رسلاً (لو 6 :13) لأنه قصد أن يرسلهم إلى العالم قارن سورة الصف 61 :14. ثم لما أكمل عمله وقام من بين الأموات وكان على وشك الصعود سلّم إليهم مأمورية الكرازة، ووكل إليهم أن يتلمذوا جميع الأمم (مت 28 :19) ويشهدوا له إلى أقصى الأرض (أع 1 :8). ولما كان الإنسان ضعيفاً ومعرضاً للزلل أمرهم أن يمكثوا في أورشليم حتى يرسل إليهم الروح القدس يقوّيهم ويذكّرهم بالحق ويعصمهم من الخطأ في تبليغ الرسالة، ويعدّ لهم القلوب، ووعدهم بأنه يرسله بعد أيام قليلة (أع 1 :5 ويو 14 :16 و17 و26 و15 :26 و16 :7-15 وأع 1 :4 و8). وامتثالاً لأمره (لو 24 :49 وأع 1 :5) مكثوا في أورشليم منتظرين إتمام الوعد، ففي ختام خمسين يوماً من قيامته أو عشرة أيام من صعوده كانت الرسل مع جماعة من المؤمنين يبلغ عددهم جميعاً مائة وعشرين يصلّون ويسبحون الله، وإذا بصوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (انظر أع 2 :1-13) ومن ذلك الوقت ملأهم الروح القدس بالمحبة والإيمان والغيرة الصالحة والشجاعة ومعرفة الحق (يو 14 :26 و16 :13) الذي أراد الله أن يعلنه لهم وأن يبلغوه للعالم. ومما يدل على صدق إرسالهم إلى العالم أنه وهب لهم أن يتكلموا بألسنة أخرى (أع 2 :4) ومن ذلك الوقت لم نسمع أبداً أنهم بشروا في بلاد أجنبية بعد درس لغاتها، لأن الله تعالى أعطاهم قوة التكلم بالألسنة كعلامة على أن روح الله يعينهم على الكرازة بأية لغة أينما ذهبوا، وأن بعضاً من الرسل إن لم نقُل كلهم أيدهم الله بالمعجزات الباهرة في شفاء المرضى وإقامة الموتى كمعجزات سيدهم (أع 2 :43 و3 :1-11 و5 :12-16 و8 :17 و9 :31-43) إلا أنهم عملوا هذه المعجزات باسم المسيح وليس بقوتهم ولا تقواهم (أع 3 :6 و16).
وبعد ذلك ببضعة سنوات اهتدى بولس إلى الإيمان بالمسيح بمعجزة عجيبة (أع ص 8) وبعثه المسيح رسولاً وأيده بالمعجزات كباقي الرسل (أع 14 :8-10 و19 :6 و11 و12 و20 :9 و10 و28 :8 و9) ومما يجب ملاحظته أن المعجزات أُعطيت في بداءة الديانة المسيحية إلى زمن معين لأجل تأييدها إلى آخر زمان الرسل، ولو كانت استمرت المعجزات كل الزمان إلى العصر الحاضر لأصبحت اعتيادية وفقدت ما لها من السلطان في تأييد جماعة الرسل في ما كتبوه من الأسفار المقدسة وما كرزوا به. ولذا أيد الله بها المؤسسين الأولين لتثبيت الإيمان وتشجيعهم على احتمال عذاب الاضطهاد (عب 2 :4) ولم نقرأ قط لا عن المسيح ولا عن رسله أنهم عملوا المعجزات لإقناع غير المؤمنين وحملهم إلى الإيمان.
وساعد الروح القدس الرسل في مناداتهم بالإنجيل وكتاباتهم، وعصمهم من الخطأ، وأرشدهم إلى الحق الذي أراد الله إعلانه للناس، فما كرزوا به وما كتبوه ليس كلامهم بل كلام المسيح (مر 13 :11 ويو 14 :26 ورو 15 :18 و19 و1كو 2 :12 و13 و1تس 2 :13). فمن قَبِلهم قَبِل المسيح ومن رفضهم رفض المسيح، وعلى ذلك قوله : "اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الذِي أَرْسَلَنِي" (لو 10 :16) وعليه فجماعة الرسل صادقون في دعواهم بالرسالة من الله (1كو 1 :1 وغل 1 :1 و1بط 1 :1).
ثم أن قوة الله وفاعلية الحياة المقدسة التي عاشها المسيح على الأرض ظهرت تمام الظهور بكرازة الرسل، لأنه لم يمض وقت طويل حتى أن ألوفاً كثيرة من اليهود بل من نفس الكهنة اعتنقوا المسيحية (أع 2 :41 و4 :4 و6 :7 و21 :20) وكذلك آمن من الأمم جماهير كثيرة انتقلوا من الظلمة إلى النور ومن ملكوت الشيطان إلى حرية مجد أولاد الله، ومن عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحي (1تس 1 :9).
ولم تُذكر معجزات العهد الجديد التي أتى بها الرسل في أسفارهم وفي مؤلفات المسيحيين الأولين فقط، بل شهد لها اليهود كما جاء في تلمودهم، إلا أن كتبتهم المتأخرين نسبوا معجزات المسيح إلى السِّحر، وكذلك شهد لسرعة انتشار الديانة المسيحية عدد ليس بقليل من كتبة الوثنيين، منهم بليني وتاسيتوس وسلسوس والأمبراطور يوليان المرتد، وقد اتخذ الأعداء كل وسيلة لمحو آثار المسيحية عن وجه الأرض ولكنها بالرغم عن ذلك ثبتت أمام الاضطهادات.
ينكر بعض إخواننا المسلمين على تلاميذ المسيح لقب الرسول، ولكن بإنكارهم ذلك يُظهرون عدم اطلاعهم على نفس كتابهم الذي يدعوهم في سورة آل عمران 3 :52 والمائدة 5 :114 والصف 16 :14 الحواريين. وأجمع العلماء أن هذه الكلمة حبشية الأصل ومعناها رسول، وفي نسخة العهد الجديد الحبشية وردت كلمة الحواريين موضع كلمة رسل (انظر لو 6 :13) وهي مشتقة من كلمة تفيد باللغة العربية معنى ارسل ولذلك لا مسلم حريص على كرامة القرآن يتجاسر أن ينكر أن تلاميذ المسيح رسل أو أن المسيح لم يُصِبْ في تسميتهم بهذا الاسم، وأن بولس تعيّن رسولاً أيضاً بعد تعيين الرسل الأولين بمدة وجيزة حينما ظهر له المسيح من السماء وهو مسافر إلى دمشق ودعاه أولاً إلى الإيمان ثم بعثه رسولاً (أع 9 :1-30 و22 :21 ورو 11 :13 و2كو 12 :12 و1تي 2 :7) وعدا ذلك فإن نجاح الرسل في نشر بشرى الخلاص دليل على صحة رسالتهم، لأنه ظهر ختم الله على أعمالهم.
- عدد الزيارات: 9897