التعليم بإله واحد في ثلاثة أقانيم - القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله
ومما لا يصح إغفاله أن القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله في أن أمثلة ذلك أقل بكثير في التوراة عما هي في القرآن ومما ورد في التوراة هذه المواضع (تك 1 :26 و3 :22 و11 :7) وفي القرآن ما ورد في سورة العلق وهي عند المسلمين أول ما نزل من الوحي على محمد، فقد ورد في عدد 8 لفظ الرب اسماً للجلالة وعدد 13 لفظ الله وكل من اللفظين في صيغة المفرد، ولكن في عدد 18 ورد ضمير الجلالة بصيغة الجمع حيث يقول "سَنَدْعُ الزَبَانِيَة"َ (سورة العلق 96 :18).
وحيث أن الكتاب المقدس والقرآن يتفقان على هذا الأسلوب من التعبير عن ذات الجلالة بضمير الجمع، فلا يخلو ذلك من قصد. أما اليهود فيعللون عنه بكون الله كان يتكلم مع الملائكة، إلا أن هذا التعليل لا يلائم نصوص التوراة ولا القرآن. ويقول المسلمون إن صيغة الجمع هي للتعظيم وهو تعليل سخيف لا يشفي غليل الباحث النبيه، وليس لنا أن نخوض في شرح القرآن إنما أوردنا ذلك إشعاراً بأننا لا نخطئ إذا اعتبرنا عقيدة التثليث موافقة لإسناد ضمير الجمع إلى الله في القرآن.
وقلنا إنه لا توجد مشابهة وافية بين الله والمخلوقات، إلا أنه توجد بعض الأشياء عدا ما ذكرنا آنفاً تثبت التعدد في الوحدة، مثال ذلك خيط واحد من أشعة الشمس يتضمن ثلاثة أنواع من الأشعة : 1- النور 2- الحرارة 3- العمل الكيماوي. وهذه الثلاثة شعاع واحد بحيث لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى لتتكون ثلاثة أشعة بل بالعكس الشعاع الواحد لا يتكون إلا من الثلاثة معاً. وكذلك النار والنور والحرارة ثلاثة أشياء، ولكنها واحد فلا نار من غير نور وحرارة مع أن النور والحرارة من طبيعة النار وأصلها، نقول إن النار تعطي نوراً وحرارة، إذ أن النور والحرارة تنبعثان من النار. ولكن ذلك لا يجعلهما تنفصلان عن النار أبداً، فلا تسبقهما في الوجود، ولا تتأخر عنهما في العدم. وكذلك العقل والفكر والكلام واحد، مع اختلاف كل منها عن الآخر، لا نقدر أن نتصور العقل عارياً عن الفكر ولا الفكر عارياً عن الكلام منطوقاً به أو غير منطوق. ففي هذه الأمثلة جميعها لا يشوش التعدد على الوحدة بل يتفقان تمام الاتفاق، ولنا أن نستنتج من ذلك أن وجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت ليس مضاداً للعقل السليم، بل له شبه ونظائر في الطبيعة وسند قوي في الكتاب.
وهنا فكر آخر له علاقة بالتثليث إن من أسماء الله الحسنى عند المسلمين كونه ودوداً أي محباً وهذا يوافق ما جاء في الكتاب في إرميا 31 :3 ويوحنا 3 :16 و1يوحنا 4 :7- 11. وبما أنه غير متغيّر فهو ودود من الأزل ويلزم عن ذلك أن يكون له مودود أي محبوب من الأزل قبل خلق العالم، فمن عساه يكون ذلك المحبوب الموجود من الأزل عند الله؟ ففي عقيدة التثليث نجد الجواب الصريح والوحيد لهذا السؤال، فنقول إن أقنوم الآب هو الودود، وأقنوم الابن المودود، وما أحسن ما قال يسوع في هذا المعنى مخاطباً أبيه "أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَم"ِ (يو 17 :24) وعليه لا يمكن الاعتقاد بوجود صفة المحبة في الله من الأزل ما لم نعتقد بتعدد الأقانيم مع وحدة الجوهر، وإلا كان الله متغيراً ابتدأ أن يحب من الوقت الذي خلق له محبوباً من الملائكة أو البشر، وهذا باطل لأنه قال "أَنَا الرَّبُّ لَا أَتَغَيَّرُ"(مل 3 :6).
وربما يسأل سائل : ما فائدة الإيمان بالثالوث المقدس؟ ألا يكفي أننا نؤمن بأن الله واحد بصرف النظر عما إذا كان ذا ثلاثة أقانيم أو ذا أقنوم واحد؟ فأجيب : فائدة الإيمان بالتثليث ليست أقل من الإيمان بالتوحيد لجملة أسباب جديرة بالنظر، منها حل المعضلات الكثيرة التي يُعترَض بها على الوحدانية المحضة، مثل كيف يكون الله هو الكافي والصمد والمتكلم والغني والودود من قبل أن يكون كائن سواه، لأن كل هذه الصفات وما شاكلها لا يمكن التعليل عنها إلا بتعدد الأقانيم الإلهية مع توحيد الذات كما مر بيانه في كلامنا عن وصف الله بالودود.
وهذا التعليم أيضاً يمكّننا من فهم بعض تعاليم الكتاب المقدس، كما أنه يبين لنا شرح بعض الآيات القرآنية. وأهم ما ذكر أن الإيمان بالتثليث مفيد لأنه يمهد السبيل لتصديق دعوى المسيح أنه كلمة الله المثبوتة في كل من الإنجيل والقرآن وتسمية المسيح كلمة الله في سورة النساء 4 :169 وقول الحق في سورة مريم 19 :35 أسلوب حسن للتعبير عن طبيعة المسيح ووظيفته بأنه الوسيلة الوحيدة لإعلان الله للناس. لأن المراد من كلمة أو قول هو ما يعبر به المتكلم عن فكره، والمتكلم هنا الله . وحيث أنه دعى المسيح كلمته فيكون هو المعبر الوحيد الكامل عن فكر الله ومظهره القدوس الذي يظهر به لخليقته المحدودة وبه تكلم الأنبياء مسوقين من الروح القدس (لو 22:10 و يو 1:1-2 و 18و 6:14-9 و 1بط 12:10) وحيث أن المسيح هو الواسطة الوحيدة لإعلان الله يجب أن يعرفه هو أولاً ويعرف إرادته، وقد عرفه كل المعرفة بدليل قوله أما أنا فأعرفه الآب يعرفني وأنا أعرف الآب (يو 8 :55 و10 :15). ومن هذه الحيثية تمتاز معرفة المسيح لله عن معرفة الإنسان. رُوي عن محمد أنه قال في حديث له مخاطباً لله ما عرفناك حق معرفتك، ويعترف علماء الإسلام أن الله عظيم وسام بحيث لا يدرك كنهه عالِم ولا نبي ولا رسول،
فلا يعرف الله حق معرفته إلا كلمته أي المسيح. فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يكون المسيح مجرد مخلوق ولو كان أسمى المخلوقات وإلا لقصرت معرفته دون إدراك الله إدراكاً كاملاً، لأنه لا يعرف الله إلا الله. وعليه يكون المسيح أقنوماً إلهياً، فعقيدة التثليث إذاً تزيل كل صعوبة تخالج العقل في قبول دعوى المسيح بأنه كلمة الله، وبالتالي قبول خلاصه.
وعدا ما ذُكر فإنه في الإيمان بالتثليث حسنة كبيرة تغمر الشرقيين والهنود، الذي ساد عليهم الاعتقاد بالقضاء والقدر حتى أنهم استسلموا للجمود والتهاون فتأخروا عن غيرهم من الأمم في جهاد الحياة، مع أنهم من حيث الذكاء والإقدام يتساوون مع الجميع إن لم يزيدوا عنهم كما هو مثبوت في التاريخ. فما الذي حدا بهم إلى التقهقر في سلّم المدنية غير استحكام عقيدة القضاء والقدر في أذهانهم؟ فلو آمنوا أن الله لم يقدِّر عليهم سوءاً ولا قضاء بخرابهم بل يحبهم حباً فائقاً بحيث أنه أعلن لهم نفسه في شخص كلمته الأزلي وحمل آلامهم وأحزانهم ومات بالجسد لخلاصهم وقام ثانياً لأجلهم، لما بقي عندهم محل للشك في حُسن مراد الله من جهتهم، ولاستنارت أذهانهم وفهموا نصوص الإنجيل الذهبية كقوله "هكَذَا
أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ا بْنَهُ الوَحِيدَ. لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّة"ُ (يو 3 :16 و1يو 4 :7- 16).
- عدد الزيارات: 11378