Skip to main content

الواقع القرآنى بنفى المعجزة عن محمد - تضامن فى المصير مع المسيحية

الصفحة 6 من 6: تضامن فى المصير مع المسيحية

تضامن فى المصير مع المسيحية ، ووحدة مع " النصرانية " . ففى سورة ( الروم ) أيضا يعطينا صفة الدين الذى يدعو له : "فأقم وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله التى فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ، و لكن أكثر الناس لا يعلمون " ( 30 ) ،
" فأقم وجهك للدين القيم ، من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ، يومئذ يصدعون " ( 43 ) . يؤمر محمد بالحنيفية ، و يصفها بأنها " الدين القيم " ، و هذا التعبير ترجمة " الارثذكسية " فى المسيحية . و نعرف أن " الحنيفية " لقب أطلقه مسيحو سورية على النصارى من بنى اسرائيل ، فجعله هؤلاء عنوان " الدين القيم " الذى يدعيه المسيحيون لأنفسهم فى دولة الروم . فمحمد يدعو بدعوة النصارى الى " الحنيفية " ، و يصفها معهم بأنها " الدين القيم " و كما نازعت النصرانية المسيحية فى صفة " الدين القيم " نازعتها فى صفة الانتساب الى ابراهيم ، كما فعل بولس مع اليهود . فالحنيفية النصرانية تدعى أنها الدين القيم و أنها ملة أبراهيم . و بهذا النسب عينه ، الحنيفية ، الدين القيم ، ملة ابراهيم ، يتضح أن القرآن دعوة " نصرانية " ، فى وحدة الأمة .
فى ( العنكبوت ) ، الخامسة و الثمانين ، و الاخيرة فى مكة ، يتم كشف الغطاء عن هوية الاسلام الذى يدعو اليه القرآن . التصريح الأول : " ووهبنا له اسحاق و يعقوب ، و جعلنا فى ذريته النبوة و الكتاب " ( 27 ) . نلاحظ التعريف و الاطلاق : إن النبوة و الكتاب هما فى ذرية ابراهيم ، من اسحاق و يعقوب ، لا من اسماعيل . التصريح الثانى : القرآن العربى وحى من هذا الكتاب : " آتل ما أوحى اليك من الكتاب " ( 45 ) . التصريح الثالث : يعلن الوحدة التامة الكاملة مع النصارى المحسنين ، المقسطين ، " أولى العلم و الايمان " : " و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن – إلا الذين ظلموا منهم – و قولوا : آمنا بالذى أنزل الينا و أنزل اليكم ، و الهنا و الهكم واحد ، و نحن له مسلمون " ( 46 ) . قال : " ان هذا القرآن يقص على بنى اسرائيل أكثر الذى هم فيه يختلفون " ( النمل 76 ) . و قد اختلفوا الى يهود و نصارى ( الصف 14 ) . و فى عرفه المتواتر ، اليهود هم الظالمون الذين يصح جدالهم بغير الحسنى ، أما النصارى فلا يصح جدالهم الا بالحسنى ، و هذه الحسنى هى بالامر لأمته بالشهادة معهم ان التنزيل واحد ، و الاله واحد ، و الاسلام واحد . فالقرآن دعوة " نصرانية " . التصريح الرابع : " و كذلك أنزلنا اليك الكتاب : فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ، و من هؤلاء من يؤمن به ، و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون . و ما كنت تتلو من قبله من كتاب ، و لا تخطه بيمينك ، إذا لارتاب المبطلون . بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم ، و ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " ( 47 – 49 ) . صورة كاملة عن موقف أهل مكة من الدعوة القرآنية فى آخر العهد المكى : 1 ) " فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به " ، تعبير عام يقصد
به الخاص ، يعنى " الذين أتوا العلم " أى النصارى ، فهم يؤمنون بالدعوة القرآنية ، و القرآن " آيات بينات فى صدورهم " ، فالدعوة دعوتهم . 2 ) " و من هؤلاء " أى " أهل مكة " بعضهم يؤمن بالدعوة . 3 ) " و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون " من سائر أهل مكة . 4 ) و " المبطلون " ( 48 ) و " الظالمون " ( 49 ) هم اليهود الذين يرتابون بصحة النبوة و يجحدون صحة الدعوة القرآنية ، و ذلك لأنها " آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم " أى النصارى . لكن تبطيلهم لا يستند الى حق : " و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك " ( 48 ) . قبل القرآن لم يكن يفعل ذلك ، لكن فى رؤيا غار حراء جاءه الأمر بالقراءة و التعلم بالقلم ( العلق 1 – 4 ) ، فأخذ يدرس و يكتب مع " المسلمين " من قبله ، " أولى العلم و الايمان " ( القلم 37 و 47 ) . فلا تعنى الاية ( 48 ) أمية محمد فى شىء . و قوله : " و كذلك أنزلنا إليك الكتاب ... بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم " ( 47 و 49 ) يدل على كيفية بلوغ التنزيل الى محمد . التصريح الخامس ، فى ضرورة المعجزة لصحة النبوة : " و قالوا : لولا أنزل عليه آيات من ربه ! – قل : انما الآيات عند الله ! و انما نذير مبين ! أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ " ( 50 – 51 ) . فلا معجزة عند محمد ، بل هو نذير ، و آيته تلاوة الكتاب على العرب بلسان عربى مبين ، فى " تفصيل الكتاب " بالقرآن العربى . و يشهد على صحة التفصيل و نقل التنزيل " الذين أوتوا العلم و الايمان " أى " النصارى " .
و هنال بعض سور مختلف فى زمانها ، منها ( الرعد ) ، السورة التسعون . نجد فيها الجدال الأخير بمكة على صحة النبوة و الدعوة : " و يقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! إنما أنت منذر ، و لكل قوم هاد " ( 7 ) ، فمحمد منذر ، كما لكل قوم هاد ، و هذا التشبيه يدل على أن نبوءة محمد لا تقوم على معجزة و بأنها هداية . و هذا الواقع التاريخى أمر مقرر مكرر : " و يقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ! – قل : ان الله يضل من يشاء و يهدى اليه من أناب " ( 27 ) ، فليس لديه معجزة . فيزدادون تعجيزا له : " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ، أو قطعت به الأرض ، أو كلم به الموتى ! – بل الله الأمر جميعا ! أفلم ييأس الذين آمنوا ، أن لو يشاء الله الهدى الناس جميعا " ( 31 ) . ينتهى بالتسليم بالعجز المطلق عن كل معجزة ، حتى كاد اليأس يستولى على جماعته ، و حتى تيقن مشركو مكة انه ليس مرسلا : " و يقول الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا بينى و بينكم و من عنده علم الكتاب " ( 43 ) .
ينتهى القرآن المكى بالتحدى الأكبر : " لست مرسلا " ! فلا يرد التحدى بمعجزة . و لا يقدم لهم اعجاز القرآن معجزة له . آيته الوحيدة طول العهد بمكة ، إنما هى شهادة " من عنده علم الكتاب " أى النصارى " أولو العلم و الايمان " . فلا معجزة اذن فى القرآن على الاطلاق ، و لا يعتبر اعجازه معجزة له . و هكذا فالواقع القرآنى يؤكد قول المعتزلة الأقدمين : إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة .
و كانت الهجرة الكبرى الى المدينة انقلابا فى الرسول و الرسالة . و تحولت الدعوة " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، الى الدعوة بالجهلد و الحديد الذى " فيه بأس شديد و منافع للناس " ( الحديد 25 ) . و انتقل الجدال من المشركين الى اهل الكتاب من اليهود . و برز الصراع الخفى مع المنافقين من اهل المدينة .
فى سورة ( البقرة ) ، الأولى ، يستشهد لآخر مرة فى دعوة العرب باعجاز القرآن : " و إن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا ، فأتوا بسورة من مثله ، و ادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين " ( 23 ) . أخيرا يتضح أن التحدى باعجاز القرآن موجه للمشركين وحدهم . فيجيبونه : " و قال الذين لا يعلمون ( العرب الأميون المشركون ) لولا يكلمنا الله ! أو تأتينا آية ! – كذلك قال الذين من قبلهم ( أهل مكة ) مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ! قد بينا الآيات ( الخطابية ) لقوم يوقنون : إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا " ( 118 – 119 ) . فموقف أهل المدينة من ضرورة المعجزة لصحة النبوة كان مثل موقف أهل مكة ، و كان جواب النبى العربى الدائم : لا معجزة عنده ، إنما هو بشير بالحق و نذير . لكن اليهود العليمين " بالبينات و الزبر " أخذوا يردون على دعوى إعجاز القرآن . فقد لاحظوا التبديل فى آيات القرآن ( النحل 101 ) و النسخ فى أحكامه ( البقرة 106 ) فأشاعوا بين الناس : إن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر و ينهى عنه غدا ( الجلالان ) فنزلت : " ما ننسخ من آية ، أو ننسبها ، نأت بخير منها أو مثلها : ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير " ( 106 ) . و التبديل فى الآيات ، و النسخ فى الأحكام لا ينسجمان مع الاعجاز فى القرآن . بهذه الآية ( البقرة 106 ) نسخ القرآن اعجازه فى الأحكام .
و فى سورة ( الانفال ) ، الثانية ، يصف وقعة بدر ، النصر الأول فى الاسلام ، " يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان " ، حيث فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله . فرأى محمد فى
النصر معجزته : " فلم تقتلوهم ، و لكن الله قتلهم ! و ما رميت ، و لكن الله رمى " ! ( 17 ) . و الإشارة بذر الرماد فى وجه العدو علامة لبدء الغارة . فهل النصر فى معركة معجزة ؟ لم يقبل بها أهل المدينة ، " و اذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين ! " ( 31 ) . فبعد التحدى كله بالقرآن لم يقتنعوا باعجازه . و يمعنون فى التحدى للنبى : " إذ قالوا : اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ، فامطر علينا حجارة من السماء ! أو ائتنا بعذاب أليم " ( 32 ) . فهم يستمسكون بمعجزة حسية على صحة النبوة ، كالأنبياء الأولين ، و لو كانت لهلاكهم .
و فى ( آل عمران ) ، الثالثة ، يأتى القول الفصل فى اعجاز القرآن كمعجزة : " هو الذى أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات . فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة ، و ابتغاء تأويله . و ما يعلم تأويله إلا الله ، و الراسخون فى العلم يقولون : آمنا به ! كل من عند ربنا ، و ما يذكر إلا أولو الألباب " ( 7 ) . بهذه الآية ، تحت ضغط جدال اليهود فى القرآن ، نسخ القرآن نفسه معجزة اعجازه لفظا و معنى ، بيانا و تبيينا . فالتصريح الأول : بوجود المتشابه فى بيان القرآن يرفع صفة الاعجاز المعجز عن نظمه و بيانه . و التصريح الثانى : " و ما يعلم تأويله إلا الله " نسخ صفة الاعجاز المعجز فى تعليمه و تبيانه . فكتاب يعجز الخلق عن تأويله و فهمه لا يكون معجزا لهم . و من البديهة انه يبعد ان يخاطب الله عبادة بما لا طاقة لأحد من الخلق فى معرفته . و هناك خلاف فى قراءة الآية " و الراسخون فى العلم " – هل ( الواو ) للعطف أو للاستئناف . و الأكثرون على أنها للاستئناف . لكن هب ان " الراسخين فى العلم " معطوف على ( الله ) فى معرفة تأويل القرآن ، فيظل ذلك من شأن " الراسخين فى العلم " ، لا من شأن جميع المخاطبين بالقرآن ، و القرآن للعامة كلهم ، لا للخاصة وحدهم . فلا يكون القرآن معجزا لجميع الناس الذين لا يعلمون تأويله و فهمه . و حاشا لله أن يخاطب الناس بمعجزة لغوية لا سبيل لهم الى ادراكها . و قد فاتهم جميعا أن تعبير " الراسخين فى العلم " ( 7 ) هو اصطلاح قرآنى مثل " أولى العلم قائما بالقسط " ( 18 ) ، و هو كناية عن النصارى من بنى اسرائيل ، فهم وحدهم مع الله يعلمون تأويل القرآن ، أو على الاصح يسلمون به تسليما و يفوضون تأويله لله . و معنى الآية هو وصف موقف اليهود و النصارى من بنى اسرائيل تجاه القرآن فى المدينة : فإن كان اليهود من وراء المنافقين العرب ، " الذين فى قلوبهم زيغ ، يتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله " ، فإن النصارى و هم " الراسخون فى العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا " . هذا هو استشهاده المتواتر بهم على صحة دعوته . و هكذا يبقى التصريح الضخم قائما : " و ما يعلم تأويله إلا الله " . و سنرى أن متشابه القرآن هو القرآن كله ما عدا آيات الاحكام ( الاتقان 2 : 2 ) . لذلك فليس اعجاز القرآن بمعجز و لا بمعجزة ، اذ فهمه و تأويله من اختصاص الله وحده . و آية محمد على صحة رسالته و دعوته تبقى النصر فى الحرب : " قد كان لكم آية فى فئتين التقتا ، فئة تقاتل فى سبيل الله ، و أخرى كافرة ، يرونهم مثيلهم رأى العين ، و الله يؤيد بنصره من يشاء ، إن فى لعبرة لأولى الأبصار " ( 13 ) ، " لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة ، فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ( 123 ) . منذ نصر بدر ، صارت آية النبى العربى تأييد الله له " بنصره " فى الجهاد و القتال ، و توارى الحديث عن المعجزة و الاعجاز .
و فى سورة ( محمد ) ، السادسة ، نرى صدى هذه المعجزة من نوع جديد فى ضمير المؤمنين : " و يقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة ! فإذا أنزلت سورة محكمة ، و ذكر فيها القتال ، رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشى عليه من الموت . فأولى لهم طاعة و قول معروف " ( 20 – 21 ) . بسبب معجزة الجهاد كثر المنافقون فى المدينة . و حصلت موجة من الارتداد عن الاسلام : " إن الذين ارتدوا على أدرباهم ، من بعد ما تبين لهم الهدى ، الشيطان سول لهم و أملى لهم " ( 25 ) ، " إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول ، من بعد ما تبين لهم الهدى ، لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم " ( 32 ) . و نلاحظ على قوله : " فإذا أنزلت سورة محكمة " ( 20 ) الإقرار الضمنى بأن هناك سورا غير محكمة ، و غير معجزة ، كما ان " فيه آيات محكمات ، هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات " ( آل عمران 7 ) .
و فى ( البينة ) ، التاسعة ، نرى أن معجزة " الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس " لم يقبلها أيضا اليهود و لا المشركون : " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ( اليهود ) و المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ( 1 ) . و البينة التى يطلبون هى " رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة ! – و ما تفرق الذين أوتوا الكتاب ( من اليهود ) إلا من بعد ما جاءتهم البينة " ( 2 – 4 ) . إن الخلاف على نوع البينة : فاليهود يرون فى الرسول الحق الموعود مطابقته للتوراة من دون الانجيل ، و القرآن يرى أنه أتى بالبينة ، و إن دعا إلى إقامة

التوراة و الانجيل معا ، الى دين موسى و عيسى دينا واحدا . و تلك البينة بأنه " يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة " تؤكد انتساب محمد الى كتاب على الارض ، لا الى كتاب محفوظ فى السماء ، فالقرآن العربى هو قراءة الكتاب المنزل قبله على العرب ، بلسان عربى مبين .
و فى ( الحج ) ، الثالثة عشرة ، مازال يجادل المشركين بهدى و علم الكتاب المنير ، " و من الناس من يجادل فى الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير " ( 8 ) . فيطلبون منه معجزة حسية ، كعذابهم الموعود ( 47 ) فيجيب : " قل : يا أيها الناس ، إنما أنا لكم نذير مبين " ( 49 ) فليس عنده معجزة . لذلك " لا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " ( 55 ) . ليس عنده سوى الآيات الخطابية : " و اذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر ، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " ( 72 ) . و سورة ( الحج ) تسجل ضجة قامت فى المدينة بين الطوائف كلها بسبب تصريح القرآن بإمكانية إلقاء الشيطان فى تنزيل القرآن ، " ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض ( المنافقين ) و القاسية قلوبهم ( المشركين ) و إن الظالمين ( اليهود ) لفى شقاق بعيد ، و ليعلم الذين أوتوا العلم ( النصارى ) أنه الحق من ربك ، فيؤمنوا به فتخفق له قلوبهم ، و ان الله لهاد الذين آمنوا ( جماعة محمد ) الى صراط مستقيم " ( 53 – 54 ) . فالنصارى من بنى اسرائيل " الذين أوتوا العلم " آمنوا بإحكام الآيات بعد إلقاء الشيطان فيها ، كما آمنوا بمتشابه القرآن ، لأن الدعوة القرآنية دعوتهم . لكن إمكانية إلقاء الشيطان فى الوحى تظل شبهة على الاعجاز فى التنزيل .
و فى ( الفتح ) ، السابعة عشرة ، يرى فى صلح الحديبية " فتحا مبينا " يؤكد " إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا ليؤمنوا بالله و رسوله " ( 8 – 9 ) . فرسالة محمد شهادة . و معجزة هذه الشهادة ظهور دينه على أديان الجزيرة : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ، ليظهره على الدين كله ، و كفى بالله شهيدا . محمد ، رسول الله ، و من معه أشداء على الكفار ، رحماء بينهم " ( 28 – 29 ) . تكفيه شهادة الله بنصره فى الجهاد : فلا معجزة و لا اعجاز .
و فى ( الصف ) ، السورة العشرين ، يشيد بفتح شمال الحجاز حيث " أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ، ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون " ( 9 ) ، و يشيد بالمعجزة التى بدأت جماعته تحبها : " و أخرى تحبونها : نصر من الله و فتح قريب ، و بشر المؤمنين " ( 13 ) .
فالفتح بالنصر لإظهار الاسلام على الدين كله هى المعجزة التى انتهت اليها الدعوة و النبوة . سيكرر ذلك مرة ثالثة فى ( براءة 33 ) . شعار واحد يردده ثلاث مرات : فى بدء النصر على قريش ، و فى النصر على يهود الشمال ، و فى النصر على العرب المسيحين فى أطراف الشام . هذا ما رأى فيه اعجاز القرآن و معجزة النبوة .
و فى سورة ( الصف 14 ) مفتاح لفهم سر الدعوة القرآنية – بعد محاربة الشرك . فى مكة قال : " إن هذا القرآن يقص على بنى اسرائيل أكثر الذى هم فيه يختلفون " ( النمل 76 ) . و فى المدينة ، بعد النصر على اليهودية فى الشمال ، يكشف سر دعوته : " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ، ابن مريم ، للحواريين : من أنصارى الى الله ؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بنى اسرائيل ( هم النصارى = الأنصار ) ، و كفرت طائفة ( اليهود ) فأيدنا الذين آمنوا ( النصارى ) على عدوهم ( اليهود ) فأصبحوا ظاهرين " . فالنصارى فى لغة القرآن هم حصرا من بنى اسرائيل . و هكذا عرفوا فى التاريخ . و من الجهل بالتاريخ و القرآن تسمية المسيحيين نصارى . و الآية شاهد على أن الدعوة القرآنية قامت فى الجزيرة العربية انتصارا للنصرانية الإسرائيلية المؤمنة بالمسيح على اليهودية الكافرة به . . فبالدعوة و الجهاد تم النصر و الفتح لهذه النصرانية . فالآيتان ( النمل 76 و الصف 14 ) هما البرهان القاطع على أن الدعوة القرآنية " نصرانية " .
و انظر تفسير الجلالين فى التعريف بتلكما الطائفتين – و هو مثال لتفاسيرهم : " فآمنت طائفة من بنى اسرائيل بعيسى و قالوا إنه عبد الله رفع الى السماء ، ( و كفرت طائفة ) لقولهم انه ابن الله رفعه اليه . فاقتتلت الطائفتان ، فقوينا الطائفة المؤمنة على الطائفة الكافرة فأصبحوا غالبين " . هذا جهل بالتاريخ و العقيدة . و هم معذورون لجهلهم حقيقة " النصارى " بعد أن أسهموا فى نشأة الاسلام و ذابوا فيه ، و اندثر وجودهم و خبرهم . مع ان القرآن شاهد ناطق بوجودهم و عملهم على عهده . فالطائفة الكافرة بالمسيح من بنى اسرائيل لم يقبلوا البتة و لم يقولوا " انه عبد الله رفع الى السماء " فهذا اعتراف منهم بأن المسيح أتى . و الطائفة المؤمنة بالمسيح من بنى اسرائيل لم يقولوا البتة " انه ابن الله رفعه اليه " . هذه مقالة المسيحية . و تلك مقالة النصرانية و القرآن . فلا ذكر على الاطلاق للمسيحية فى آية ( الصف 14 ) . و الجلالان و صحبهما ينسبون الى النصرانية عقيدة المسيحية .
و فى سورة ( الحديد ) ، الحادية و العشرين ، ينشد نشيد الحمد على فتح مكة ، عاصمة الشرك ، بمعجزة الحديد : " لقد أرسلنا بالبينات ، و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم
الناس بالقسط . و أنزلنا الحديد ، فيه بأس شديد و منافع للناس ، و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب ، إن الله قوى عزيز " ( 25 ) . لقد بعث الله الرسل بكتاب الهدى و ميزان العدالة لقيام العقيدة و الشريعة بين الناس . أما مع محمد و القرآن فقد " أنزلنا الحديد " . لاحظ دقة التعبير حيث صار السيف معجزة منزلة ، لصحة الدعوة و النبوة . أليس هذا " يدعا من الرسل " ( الاحقاف 9 ) ، فى مقابلة القرآن الصريحة ( الحديد 25 ) .
و فى ( المائدة ) ، الثانية و العشرين ، ينقل من حجة الوداع : " اليوم أكملت لكم دينكم ، و أتممت عليكم نعمتى ، و رضيت لكم الاسلام دينا " ( 3 ) . أى إسلام ؟ إسلام الشاهدين له : " إنا كنا من قبله مسلمين " ( القصص 53 ) ، إسلام " أولى العلم قائما بالقسط " الذين يشهدون مع الله و ملائكته " إن الدين عند الله الاسلام " ( آل عمران 18 – 19 ) ، إسلام الطائفة المؤمنة بالمسيح من بنى اسرائيل ، التى انتصرت على اليهودية بفضل القرآن و حهاد النبى ( الصف 14 ) ، أى إسلام " النصارى " الذى ارتضاه لهم دينا ، و ظهر على اليهودية و الشرك . لذلك " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ، فلا تخشوهم واحشون " ( 3 ) . فالخوف من بطش الله و رسوله ظل آيته حتى النهاية ، لظهور الاسلام " النصرانى " على اليهودية و الشرك : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا . و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ... يقولون : ربنا آمنا مع الشاهدين " ( 82 و 83 ) . فاليهود و العرب المشركون هم أهل العداوة ، و النصارى أهل المودة و الايمان و الشهادة الى النهاية . و هذا الاعلان الصريح دليل على أن الدعوة القرآنية ظلت حتى النهاية دعوة " نصرانية " . و انتصار الاسلام القرآنى على الدين كله ، أى على اليهودية و الشرك ، هو انتصار " النصرانية " فى الجزيرة العربية . و هذا الظهور بالنصر و الفتح هو معجزة القرآن و النبوة .
و فى ( التوبة – براءة ) ، الثالثة و العشرين ، أحكمت " آية السيف " ، معجزة القرآن و النبى العربى : " براءة من الله و رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين : فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر ، و اعلموا أنكم غير معجزى الله ، و أن الله مخزى الكافرين ... فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " من حل و حرم ( 1 – 2 و 5 ) . فهو يشرع قتال المشركين العرب حتى يسلموا . جاء فى ( الناسخ و المنسوخ ) ص 26 للنحاس : " نسخ بهذه الآية ( 5 ) و ثلاثة عشر موضعا فى القرآن " . و قال ابن حزم : " نسخ بهذه الآية مائة
و أربع عشرة آية فى ثمان و أربعين سورة " . و نقل ( الاتقان 2 : 24 ) : " قال ابن العربى : كل ما فى القرآن من الصفح عن الكفار و التولى و الاعراض و الكف عنهم ، منسوخ بآية السيف " . و هذا الواقع الضخم دليل على أن " آية السيف " هى دليل النبوة ، لا المعجزة و لا الاعجاز ، فى ظهور الاسلام على الدين كله . و هو يشرع قتال أهل الكتاب العرب " حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون " ( 29 ) أى حتى يخضعوا لسلطان الاسلام ، لا لدين الاسلام . هكذا بقتال الناس كلهم ، من مشركين و كتابيين ، يكون ظهوره " على الدين كله " ( 33 ) . هذه هى شرعة القرآن الأخيرة ، ووصية محمد الأخيرة لأمته . فهى دليل النبوة و الدعوة ، لا المعجزة و لا الاعجاز .
و ختام القرآن المدنى ، بل القرآن كله ، فى سورة ( النصر ) ، و هى نشيد الحمد الختامى على معجزة القرآن و النبوة ، فى النصر و الفتح :
" إذا جاء نــصر الله و الــفــتــح و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا
فــســبــح بحمد ربــك ، و اســتــغــفره إنــه كان توابا "
إنها نشيد الحمد على سيطرة الاسلام على الجزيرة العربية . انها نشيد الحمد على معجزة النصر و الفتح . لكنها ، بنص القرآن القاطع ، تظل معجزة مشبوهة ، لانها تقتضى الاستغفار ، و لا أمر بالاستغفار حال النصر و الفتح بدون ذنب . و هكذا فالصدى الأخير لمعجزة السيف ، كالصدى الأخير لمعجزة الاعجاز ( آل عمران 7 ) ، أنها من " متشابهات القرآن .
هذا هو الواقع القرآنى من المعجزة . حاول الأقدمون اخفاءه ، و حاول أهل الاعجاز ستره بجعل الاعجاز معجزة القرآن ، و قهرت النزاهة العلمية أهل عصرنا على الجهر به .
بدأه الاستاذ حسين هيكل فى ( حياة محمد ، ص 55 ) : " لم يرد فى كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد ، إلا القرآن "
و ختمه الاستاذ دروزة بتحليل جامع مانع : " إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته " ( 1 )
و فى تحليل الواقع القرآنى ثبت لنا :
أولا : لا معجزة حسية فى القرآن ، و أن المعجزة منعت عن محمد منعا مبدئيا قاطعا ( الاسراء 59 ) ، و منعا فعليا حازما ( الانعام 35 ) . و آية محمد الوحيدة هى شهادة " أولى العلم " له على صحة دعوته : " و قال الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل : كفى بالله شهيدا بينى و بينكم و من عنده علم الكتاب " ( الرعد 43 ) .
ثانيا : لا نبوءة غيبية فى القرآن ، فاتصريح بذلك حازم قاطع : " و لا أعلم الغيب " الانعام 50 )
ثالثا : لم يعتبر القرآن إعجازه معجزة له ( آل عمران 7 ) . و هذا ما سنفصله فى القسم الثانى .
و هكذا فقد رجع المعاصرون الى مقالة الأقدمين : إن الله لم يجعل القرآن دليل النوة . هذا هو الواقع القرآنى الذى لا ريب فيه . لذلك فكل ما نسبوه فى الحديث و السيرة و المغازى و الشمائل من معجزات لمحمد مدسوس عليه ينقضه واقع القرآن .
و قال القرآن فى النبى العربى : " ما كنت بدعا من الرسل " ( الاحقاف 9 ) . لكن الرسالة ظهرت على وجهين مختلفين ما بين مكة و المدينة . كانت الدعوة فى مكة " بالحكمة و الموعظة الحسنة " على طريقة الرسل الأولين ، ففشلت ، و فى المدينة نجحت الدعوة العسكرية بشرعة الجهاد ، أولا للدفاع عن العقيدة ، ثم لفرضها بالقوة على الجزيرة العربية ، " بالحديد فيه بأس شديد و منافع للناس " . و فى تقييم هذا الدور من الرسالة قال الاستاذ حسين هيكل فى ( حياة محمد 190 ) :
" هنا يبدأ الدور السياسى ... وهذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبى أو رسول . فقد كان عيسى ، و كان موسى ، و كان من سبقهما من الأنبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل و من طريق المعجزة ... و كذلك أمر سائر الأديان فى شرق العالم و غربه . فأما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الاسلام و انتصار كلمة الحق على يديه ، و أن يكون الرسول و السياسى و المجاهد و الفاتح " . ألا يعنى هذا أن محمدا صار " بدعا من الرسل " ؟ و أن السياسة و الجهاد و الفتح كانت دلائل النبوة ؟ أنحن فى رسالة السماء ، أم فى
سياسة الدنيا ؟ أنحن فى تأسيس دين أم فى تكوين دولة ؟ لقد غارت العقيدة فى السياسة ! و تاه الدين فى الدولة ! " بهذا الدور الذى لم يسبقه إليه نبى و لا رسول " .
أما نحن فنقول : إن نبوة محمد و رسالته قد اقتصرت ، بأمر ملاك الله له فى رؤيا غار حراء ، على " تفصيل الكتاب " ( يونس 37 ) بالقرآن العربى . و هذا لا يحتاج الى معجزة و لا إلى نبوءة غيبية ، و لا الى اعجاز فى قرآن الكتاب . يكفيه شهادة " أولى العلم و الايمان " على صحة رسالته هذه و على صحة دعوته : " قل كفى بالله شهيدا بينى و بينكم ، و من عنده علم الكتاب " ( الرعد 43 ) . فالقول الفصل : ليس فى القرآن و السيرة من معجزة حسية .

الصفحة
  • عدد الزيارات: 11775