Skip to main content

معجزة حفظ القرآن - الرخص النبوية الأربع لقراءة القرآن قبل جمعه

الصفحة 4 من 12: الرخص النبوية الأربع لقراءة القرآن قبل جمعه

 

بحث ثالث

الرخص النبوية الأربع لقراءة القرآن قبل جمعه

بعد الشهبة القائمة على وسائل حفظ القرآن ، تأتي الشبهة الضخمة على سلامة حرفه ، من الرخص النبوة الأربع لقراءَة القرآن قبل جمعه . وهذه الرخص الأربع قائمة على الشبهة الأساسية في نزول القرآن على سبعة أحرف ، وفي اجازة قراءَته على تلك الأحرف السبعة بهذه الرخص النبوية الأربع .

أولا : قراءَة القرآن بالمعنى ، من دون الحرف ، قبل جمعه

لقد نقلت الأخبار والآثار المتواترة أن النبي رخّص لجماعته قراءَة القرآن بالمعنى ، من دون حرف التنزيل ؛ وذلك على أحرفه السبعة التي نزل بها . وإن الصحابة ، من بعده ، قد أجازوا هم أيضا القراءَة بالمعنى ، وعملوا بها . فابن عباس ، ترجمان القرآن ، كان يجيز قراءَة القرآن بالمعنى . وهو مذهب الصحابة كمجاهد وأُبي بن كعب الذي كان يقرأ بدل "انظرونا" (الحديد 13) : "أمهلونا ، أخّرونا ، ارقبونا" ! وبدل "مشوا فيه" (البقرة 20) : "مروّا فيه ، سعو فيه" . والخلفاء الراشدون أنفسهم أجازوا تلك الطريقة وعملوا بها .

ويُبرّر ابن الخطيب القراءة بالمعنى ، وخروجها على مبدإ "حفظ الذكر" (الحجر 9) بقوله : "المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ ، لا منطوقها ، لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستدَلَّ بها على معان مخصوصة ، قُصد بها أوامر ونواه ، وعبادات ومعاملات ؛ وجميعها مصان محفوظ ، مهما تقادم الدهر ، وتطاول العمر" . وفات الاستاذ الخطيب ان صحة التنزيل في سلامة حرفه ، وأن صحة الاعجاز في القرآن في سلامة حرفه الذي يضيع في القراءَة بالمعنى . فإباحة القراءَة بالمعنى قد تقضي على حرف التنزيل القرآني ، وبالتالي على صحة التحدي بإعجازه . والاعجاز القرآني قائم على حرفه ، في فصاحة الفاظه ، وبديع نظمه ، ومحكم اسلوبه . فإذا ضاع الحرف المنزل ، في القراءَة بالمعنى ، ضاع معه الاعجاز .

وقد تنبّه لهذا الأمر الخطير العلماء المسلمون والمستشرقون . قال الاستاذ بلاشير ، أحد أئمة مترجمي القرآن : إن نظرية قراءَة القرآن بالمعنى كانت بلا ريب أخطر قضية في التاريخ الاسلامي ، لأنها أسلمت النص القرآني الى هوى كل شخص يثبته على ما يهوى" . ففي الرخصة بقراءَة القرآن بالمعنى ، مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه ، شبهة لا تردّ على سلامة النص المنزل من التحريف ، وبالتالي على اعجازه .

ثانيا : إباحة القراءات المختلفة للنص الواحد

إن حديث الأحرف السبعة يجرّ وراءَه إباحة القراءات المختلفة على تلك الأحرف المختلفة . وحديث القراءات المختلفة للقرآن قبل عثمان غير قصة القراءات المتواترة للنص العثماني .

قال ابو شامة : "ظنَّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث (الاحرف السبعة) ؛ وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة . وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل" . فقد قرأ الصحابة ، بحضرة النبي ، القرآن ، بقراءات مختلفة ، وأقرَّها جميعا . وهذه التوسعة في قراءَة القرآن عمل بها الخلفاء الراشدون . وما اتفقوا على قراءَة واحدة ، قبل التوحيد العثماني . ونقل ابن الخطيب أمثلة متعدّدة على اختلاف القراءَة عند أبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان ؛ ويليهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وابن عبّاس وابن الزبير . ويقول : "وهذه القراءات ثابتة في مصاحف أصحابها ومنقولة عنها ... وكذا مصاحف التابعين" . وقد بلغ اختلاف الخلفاء الراشدين في القرآن واختلاف الصحابة والتابعين الى الأمصار البعيدة ! "فأخذ أهل البصرة القرآن عن أبي موسى الأشعري ؛ وأهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود ؛ وأهل دمشق عن أُبي بن كعب ؛ وأهل حمص عن المقداد بن الأسود . وكان كل قطر من هذه الأقطار يدّعي أنه أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا" .

ولنا خير شاهد على فوضى قراءَة القرآن قبل عثمان ، من الفوضى التي نشأت بعد جمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة . فقد قامت قراءات مختلفة للحرف العثماني ، بلغت عند الإمام ابن مجاهد سبع قراءات ، وعند غيره عشر قراءات ؛ وأوصلها بعضهم الى أربع عشرة . "وذكروا في مصنفاتهم أضعاف تلك القراءات" . قال الزمخشري من قبله : "إن القراءات اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء" . والى اليوم بعد انتشار الخط ثم الطباعة ، "قد بلغ الاختلاف في القراءات حدًّا لا مزيد عليه" .

فتلك الحال من الفوضى ، بعد التوحيد العثماني للحرف القرآني أكبر شاهد على الفوضى البالغة في قراءَة القرآن قبل عثمان ، مع وجود الأحرف السبعة لنصه ، والرخص النبوية الأربع لقراءَة القرآن على كل من تلك الأحرف السبعة !

فإباحة قراءَة القرآن بالقراءات المختلفة إنما هي شبهة ضخمة على سلامة النص القرآني كما أُنزل ، وخصوصا كما أثبته عثمان ، وعلى سلامة إعجاز القرآن في حرفه الباقي .

ثالثا : الرخصة في قراءة القرآن بجميع لغات العرب

لم تكن اللغة العربية واحدة في الجزيرة ، ولا شعوبها واحدة ؛ ومهما اختلف الباحثون ، فقد أصبح واضحًا جليًّا أن اللغة العربية في الجاهلية لم تكن لغة واحدة يتفق نطقها وصرفها ونحوها . لم يبق هناك شك في أن جزيرة العرب كانت مستقر شعوب ، لا شعب واحد . وكانت هذه الشعوب تنطق بلغات كثيرة ، قد تتفق بينها بعض الألفاظ ، كما تتفق اليوم بعض ألفاظ اللغة الفرنسية والانجليزية ، ولكن كل لغة قائمة بنفسها مستقلة استقلالاً لا شك فيه" .

وكانت رخصة نبوية بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب ، قبل الجمع العثماني . "أمّا جمع عثمان ر. فلم يكن إلاّ لكثرة اختلافهم في وجوه القراءَة ، حتى إنهم قرأوه بسائر لغاتهم ، على اتّساع تلك اللغات . فلما خشي عثمان تفاقم الأمر جمع المصحف مقتصرا على لغة قريش ، محتجًّا بأنه قد نزل بلغتهم" . نرى إذن كم اتسعت الفوضى في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة ، وكم يجب من معجزة وعصمة ، لا شاهد عليهما ، للاهتداء الى النص المنزل الصحيح .

وفي الحرف العثماني الموحّد على لغة قريش نجد ثلاث ظواهر تنبئ بما كان عليه أمر النص المنزل قبل التوحيد العثماني من فوضى : 1) غريب القرآن 2) ما وقع فيه بغير لغة الحجاز 3) ما وقع فيه بغير لغة العرب . والاختلافات في قراءَة النص العثماني خير

شاهد على سعة الاختلافات قبله ، لمّا "كانت المصاحف بوجوه من القراءات مطلقات ، على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن" . جاءَ في شرح المواقف ص 490) أن في النص العثماني الموحّد "من الاختلافات ما يزيد على اثني عشر ألفا" . فكيف كان الأمر من الفوضى الضاربة أطنابها في قراءة القرآن قبل توحيد النص العثماني على حرف واحد وقراءَة واحدة ؟

أيجوز بعد ذلك الزعم بأن الحرف العثماني هو الحرف المنزل الصحيح سالمًا من التحريف ؟ إن سلامة النص العثماني من التحريف معجزة لا شاهد لها من قرآن ولا من حديث صحيح . فالرخصة في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب ، نيّفًا وثلاثين سنة قبل الجمع العثماني ، القت على صحة النص المنزل شبهة عظمى لا مردَّ لها ، وبالتالي على صحة التحدي بإعجازه .

رابعا : بعد نزول القرآن على سبعة أحرف ، إباحة القراءَات بها

على أساس إباحة قراءَة القرآن ، قبل عثمان ، قراءات مختلفة بسائر لغات العرب المختلفة ، نجد حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، وما يتبعه من إباحة قراءَته بهذه الأحرف السبعة، وكل حرف منه بجميع لغات العرب . قال السيوطي : "ليس المراد بالأحرف السبعة حقيقة العدد ، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة" . فالعدد الحقيقي أكثر من سبعة .

وكانت القراءات ، قبل عثمان ، مطلقات على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن . يقول ابن الخطيب : "ويرجع تاريخ الاختلاف بالقراءات الى زمن الصحابة ر. وهذا الذي حدا بعثمان الى كتابة مصحفه وجمْع الناس على قراءَة واحدة ... ولم يكتب عثمان المصحف إلاَّ خشية الاختلاف في القراءَات والتغالي فيها وتفضيل احداها على الأخرى ... فأمّا قبل عثمان فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات مطلقات على الحروف السبعة التي أُنزِل بها القرآن" . وهكذا مع تفرّق القرآن على سبعة أحرف وأكثر ،

جاءَت القراءَات المختلفة على كل حرف منها ، فزادت في فوضى النص المنزل ، حتى خشي عثمان من ضياع القرآن . فجمع القرآن على حرف واحد ، وجمع الأمة على قراءَة واحدة ، بالحديد والنار .

ولكن بعد تلك الفوضى في القراءات المختلفة ، على الفوضى في الأحرف السبعة المختلفة ، أنّى لعثمان ولجانه المتتابعة من العثور على النص الصحيح المنزل ، بدون تحريف ؟ وليس ثمَّتَ من شاهد في القرآن ، ولا من أثر أوجز في الحديث ، ينص على أن كتبة الوحي ، أو القراء ، أو الصحابة ، أو الخلفاء الراشدين ، أو جامعي القرآن من لجان عثمان ، كانوا معصومين ليهتدوا الى النص المنزل . فلا ضامن لاختيار عثمان الحرف المنزل الصحيح ، ولا عصمة لهم في صحة اختيار الحرف الصحيح والقراءَة الصحيحة . واذا كان كل حرف أي نص من القرآن ، ظل يُقرأ نحو نصف قرن قبل عثمان ، بجميع لغات العرب ، نرى الفوضى التي لا مثيل لها ، والتي وصل اليها النص المنزل . قال ابن عبد البرّ في اختلاف نصوص القرآن وفي شرط القراءَة بها : "إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها ، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها ، لا يكون في شئ منها معنى وضده ، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفه ويضاده ، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده" . فالشرط الوحيد لاختلاف الأحرف القرآنية وإباحة القراءَة بها ان لا يكون في شئ منها معنى وضده ، كآية عذاب بدل آية رحمة . فهل من ضابط بعد هذه التوسعة لحفظ نص القرآن المنزل ؟ وهل يمكن بعدها ، وبعد وفاة كتبة الوحي وأكثر القراء الأوائل ، العثور على النص الأصلي بدون تحريف ؟ إن ذلكم ضرب من المعجزة ومن العصمةلا شاهد لهما من قرآن أو من حديث .

وهذه شواهد قاطعة نقلوها لقراءات القرآن المختلفة عن الأئمة . نقل الطبري مثلا على تصرف أنس بن مالك في قراءَته . قرأ "إن ناشئة الليل هي أشدّ وطأً وأصوب قيلا (المزّمل 6) . فقال له بعضهم : "يا أبا حمزة ، إنما هي : أقوم ! فقال : أقوم وأصوب وأهيا ، كلها واحد" . ونقل السيوطي عن أبي بكر أنه كان يقرأ : "كلما أضاءَ لهم مشوا فيه" ،

مرّوا فيه ، سعوا فيه ... وكان ابن مسعود يقرأ : "للذين آمنوا ، انظرونا ، أمهلونا ، أخرونا" . فهذه الشواهد تدل على أنهم تصرّفوا بنص القرآن على هواهم وبحسب سليقتهم العربية ، وألسنتهم المختلفة . وهذا التصرف بقراءَة القرآن على سبعة نصوص مختلفة فما فوق ، وبجميع لغات العرب المختلفة ، أضاع النص الأصيل ، أو أدخل عليه التحريف الطويل . لذلك ، لمّا كلّف أبو بكر وعمر ، لأول مرة ، زيد بن ثابت بجمع القرآن ، صُعِق وقال : "فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمراني به من جمع القرآن .

ففي هذه الإباحة والرخصة بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة ، على كل حرف من نصوصه السبعة ، شبهة قائمة دائمة على صحة النص المنزل ، وعلى إعجاز القرآن نفسه في الحرف العثماني .

والنتيجة المذهلة الحاسمة القاطعة التي نصل اليها بعد تلك الرخص الأربع لقراءَة القرآن ، على سبعة أحرف ، وقراءات مختلفة ، وبجميع لغات العرب ، وبالمعنى من دون الحرف واللفظ ، هي : 1 – الشبهة القتّالة على سلامة النص المنزل من التحريف ؛ 2 – الشبهة المريبة على "حفظ" القرآن ، الذي يعتبرونه معجزة ؛ 3 – الحجة القائمة التي لا مردّ لها لاستحالة التحدي بإعجاز القرآن ، لأن هذا الاعجاز يقوم ، في نظرهم ، لا على المعنى ، بل على اللفظ والنظم والاسلوب أي على الحرف ، وهذا الحرف لا يمكن أن يسلم في تلك الفوضى ، مدة نصف قرن تقريبا ، التي خلقتها الرخص الأربع لقراءَة القرآن قبل أن يجمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة ، بلغة واحدة . فهذا الحرف العثماني الباقي ، لم يكن هناك من معجزة تعصمه في صحةالاختيار بين سبعة أحرف ، على قراءات مختلفة ، بجميع لغات العرب ، وأحيانا بالمعنى من دون اللفظ المنزل ، وذلك مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه .

فأين الاعجاز في التنزيل المعصوم من التحريف ؟ وأين المعجزة في حفظه كما نزل ؟ فحق لهم أن يقولوا : إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة !

في معرفة حفّاظه ورواته (الإتقان 72:1)
الصفحة
  • عدد الزيارات: 32095