معجزة حفظ القرآن - الإصدار الأخير القائم للقرآن هو من الحجّاج
4 – الإصدار الأخير القائم للقرآن هو من الحجّاج
كان الحجاج بن يوسف ، من بني ثقيف ، عميل الأمويين المروانيين على العراق . وأحد دهاة السياسة العالميين عبر التاريخ ، ومن أكبر جزّاري البشرية . يقول دروزة : "هناك رواية أن المصحف المتداول ، إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه ... وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة ، ومصاحف عثمان وأبادها" . ويقول ابن الخطيب (الفرقان 49 – 50) : "قيل : أن أول من أمر بنقطه وشكله هو عبد الملك ابن مروان . فتصدّى لذلك عامله الحجاج بن يوسف الثقفي . فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعلا ذلك . وقيل إن أول من نقطه أبو الأسود الدؤلي . وقيل : نصر بن عاصم الليثي . وقيل غير ذلك . والقول الأول هو الأرجح" .
واختلافهم في صاحب تنقيط القرآن وتشكيله ، يهدم هدم الأستاذ دروزة لرواية مصحف الحجاج : "ولعل الرواية محرفة من حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه ، ممّا صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به" . ينقضه أيضا ما ثبت أنه "قد غيّر الحجاج بن يوسف الثقفي في المصحف اثني عشر موضعا" . فلم يقتصر دور الحجاج على التنقيط والتشكيل .
وقد سمعتُ من بعض الراسخين في العلم أن جمع الحجاج الجديد للقرآن إنما كان لإسقاط ما بقي بعد إسقاط عثمان ممّا لا يليق بحق بني أمية ، وخصوصا لإقحام آية الإسراء في مطلع سورة "بني اسرائيل" ، وذلك لتحويل حج أهل الشام من مكة إلى بيت المقدس ، اتقاءً للفتنة المستعرة بمكة على بني أمية . فصارت سورة "بني اسرائيل" سورة "أسرى" ثم "الاسراء" . وفي آية الاسراء شاهد على هذا الاقحام فهي لا تمت بصلة الى السورة ، ولا إلى ما قبلها في النسق أو في ترتيب النزول .
والبرهان الأكبر على أن إصدار الحجاج للقرآن لم يقتصر على إعجام القرآن وتنقيطه هو إتلاف المصاحف العثمانية وسائر المصاحف المتداولة . فلو لم يكن في جمع الحجاج من
تصحيف أو تحريف ، لما كان من داع لاتلاف المصاحف العثمانية وهي في حرفها واحدة مع نسخ الحجاج !
وليس من المعقول أن تضيّع الأمة نسخ المصحف الإمام ! ولا أن تسهر عليها كأثمن ما في الوجود ! إن ضياعها من الوجود جميعا كان بقدرة قادر ، هو الحجاج ! يقول الأستاذ دروزة : "من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم ؟ – مع ما يُقال عن وجود بعضها قولا غير مؤيَّد بشاهد ، ووصف عياني ، موثوقين" . ويقول الدكتور صبحي الصالح : "وإن الباحث ليتساءَل : أين أصبحت المصاحف العثمانية اليوم ؟ – ولن يظفر بجواب شاف عن هذا السؤال ، فوجود الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور ، أو المبيّنة لأعشار القرآن ، ينفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية ، لأن المصاحف العثمانية كانت مجرّدة من كل هذا" .
والنتيجة الحاسمة لفقدان النسخ العثمانية – وهي المصحف الأميري الذي أجمع الأمة على تلاوته الخلفاء الراشدون – أن الحجاج قد أتلفها ، وما أتلفها إلاّ ليحرّف فيه !
ومن لا يتورع عن هدم الكعبة ، بيت الله ، هل يتورّع عن مسّ القرآن ، كتاب الله ؟ مَن يُعدّون من ضحاياه نحوًا من ماية وثلاثين ألفا أسلمهم للجلاّد ، ومَن مات وسجونه تعج بنحو خمسين ألفا من الرجال ، وثلاثين ألفا من النساء ، هل يتورّع في تصفية القرآن من الإشارات الجارحة لبني أمية ؟ ومن إقحام ما اقتضت مصلحتهم بإقحامه كآية الإسراء ؟
لا شك أن الخصومة التي قامت في الجاهلية بين بني أمية وبني هاشم ، ثم امتدت الى الاسلام ، وكان من نتائجها انقسام الأمة والحروب الأهلية المتواصلة ، التي نخرت عظام الدولة الاسلامية منذ قيامها حتى القضاء عليها . وخروجها من يد العرب ؛ وكان من نتائجها أيضا دون شك إصدار القرآن الأول على يد زيد بن ثابت من دون أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود ، واصدار القرآن الثاني على يد عثمان والثورة عليه وقتله ، وإصدار القرآن الثالث والأخير ، الحي الباقي ، على يد الحجاج – قد لعبت دورها في تصفية القرآن كما وصل الينا . فليس في العالم اليوم ، بعد الحجاج ، إلاّ "القرآن المصفّى" .
وبما أن القرآن الحالي المتداول هو أخيرا من جمع الحجّاج وإخراجه – كما يتضح من إتلاف أو ضياع المصاحف العثمانية – فكفى بالحجاج شبهة دائمة على صحة الحرف القرآني وعلى صحة إعجازه .
وإننا لنصرّح : إن هذا التحفّظ لا يمنع صحة القرآن الجوهرية التي ندين بها ، ونشهد لها .
لكن بما أن إعجاز القرآن قائم على صحة حرفه المنزل ، فبعد نزوله على سبعة أحرف وإتلاف ستة منها ، وبعد قرائَته بحسب الرخص النبوية الأربع ، وبعد تصفيته بالعرضات النبوية السنوية ، والاصدارات الثلاثة التاريخية التي كان مسك الختام فيها إصدار الحجّاج ، وبعد الاتلاف الشامل لسائر النسخ الأخرى على يد عثمان ، والاتلاف الكامل على يد الحجاج ، فلا يصح القول بإعجازه منزل في حرف القرآن ، ولا بمعجزة في "حفظه" . وادعاء ذلك إنما هو التجنّي على التاريخ الثابت من المصادر الاسلامية نفسها .
- عدد الزيارات: 34396