الإعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة - اصطفاء محمّد للدعوة القرآنية فضل من الله أم معجزة شخصية ؟
بحث رابع
اصطفاء محمّد للدعوة القرآنية فضل من الله أم معجزة شخصية ؟
أجل إنه لفضل عظيم من الله تعالى على محمد باصطفائه للدعوة القرآنية بالاسلام . ولهذا الاصطفاء الفضل الكبير بنجاح الدعوة وسيطرتها على العرب . فقد عجزت اليهودية ثم المسيحية ثم النصرانية الاسرائيلية عن السيطرة التامة على الحجاز ، عرين العرب . ولكن ، بعد اصطفاء الله محمدا ، فطرتُه ونشأته وزواجه من السيدة خديجة ، وتلمذته على علاّمة مكة ورقة بن نوفل مدة خمس عشرة سنة ، جعلت محمدا أهلا وقابلا لاصطفاء الله له ، "واللّه أعلم حيث يجعل رسالته" (الانعام 124) . فقلّما عرفت البشرية بطولة كبطولة النبي العربي .
وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها دبّرت له نشأة سليمة على الفصحى الخالصة . يقول الاستاذ العقاد : "ثم عُهد به الى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعته في بادية قَومها بني
سعد ، على سُنّة العلية من أشراف مكة ، يبتغون النشأة السليمة واللغة الفصحى بعيدا من اخلاط مكة وأهوائها . ولم يكن الطفل اليتيم على يسار لأن أباه مات في مقتبل الشباب ، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفّلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة في قريش ... ولبث معها الى الخامسة أو قبلها بقليل . وتكلّم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد ، فذاك فخره بعد النبوة اذ يعجب الصحابة من فصاحته ، فلا يرى عليه السلام عجبًا في فصاحة عربي نشأ في بني سعد ، وتربّى في الذؤابة من قريش" .
وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها، دبّرت له زواجه من السيدة خديجة التي كانت تجارتها تعدل تجارة قريش ، فجاءَه معها المال والجمال وهناء البال . وتروي السيرة النبوية لابن هشام أن السيدة خديجة قد استشارت ورقة بن نوفل بصفته ابن عمها ، وبصفته قسّ مكة ، في أمر زواجها من محمد . "فقال ورقة : لئن كان هذا حقا ، يا خديجة ، إن محمدا لنبيُّ هذه الأمة" . يقول ورقة ذلك قبل مبعث محمد بخمس عشرة سنة . فهل كان ورقة نبيّا ليعرف مصير محمد بعد خمس عشرة سنة ؟ وبعد خمس عشرة سنة يرى محمد رؤياه في غار حراء ، فيرجع الى خديجة ترتعد فرائصه . "فقالت : أبشرْ يا ابن عم واثبتْ ، من الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة" . فهل كانت خديجة ايضا نبية لتعرف قبل محمد أنه نبي هذه الأمة ؟ ففي موافقة ورقة وخديجة على زواجها من محمد تصميم على تهيئة محمد لمهمة الدعوة ، وتسلّمها من ورقة والقيام بها من بعده .
وقد بيّنا في كتاب آخر أن أميّة محمد قول لا نستطيع الأخذ به . ولا تضير الثقافة النبوة ، فقد كان موسى قبل مبعثه قد تثقّف بكل ثقافة المصريين في بيت فرعون ، وثقافة الكنعانيين مدة أربعين سنة في مدين ، قرب شيخها وكاهنها ، وهو يرعى له أنعامه .
وفي حديث ورقة بن نوفل في صحيح البخاري وغيره ، نرى صلة محمد بورقة وتلمذته للقس العلامة مدة خمس عشرة سنة ، من زواجه بخديجة الى مبعثه في سن الأربعين . وذلك في قوله في ختام الحديث : "وما نشب أن توفّي ورقة وفتر الوحي" . فهو يجعل وفاة ورقة سبب فتور الوحي . وما هذا سوى دليل على تأثير ورقة البالغ في محمد ودعوته .
ويأتي القرآن بالقول الفصل ، فيشهد أن محمدا درس الكتاب ليعلمه للعرب : وكذلك نصرّف الآيات ! وليقولوا : درست ! – ولنبيّنه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . فهو لا يرد التهمة ، وسكوته عنها وعدوله الى بيان غاية الدرس برهان على صحة واقع الدرس . غفلوا هم عن دراسة الكتاب (الانعام 156) فدرسه محمد ليدَرّسهم إياه ، "ويعلّمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل (البقرة 129 ؛ آل عمران 164 ؛ الجمعة 2) ، "ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151) . لذلك كان يستعلي على المشركين بعلم الكتاب المنير وهداه : "ومن الناس من يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير" (الحج 8 ؛ لقمان 20) . ويتحدى المشركين بقوله : "أم لكم كتاب فيه تدرسون" (القلم 37) ، فهو عنده الكتاب فيه يدرس . ويتحداهم أيضا بقوله : "أم عندهم الغيب فهم يكتبون" (القلم 47 ؛ الطور 41) ؛ فهو عنده الغيب في الكتاب يكتب منه . وهذا ما لاحظه أهل مكة وقالوه له : "وقالوا : اساطير الأولين اكتتبها ، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا" (الفرقان 5) . وكان استعلاؤه الدائم على المشركين قوله : "وما آتيناهم من كتب يدرسونها" (سبأ 44) ممّا يوحي بأنه هو كان له كتب يدرسها .
أجل إن محمدا على أثر رؤيا في غار حراء اهتدى نهائيا الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ؛ وأُمر بالانضمام الى المسلمين ، النصارى من بني اسرائيل ، يدعو بدعوتهم الى قرآن الكتاب : "وأمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) ؛ وكان يشهد معهم "أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) .
وهذا الواقع التاريخي والقرآني يشهد بأنه ليس من معجزة في اصطفاء محمد للدعوة القرآنية بالاسلام ، إلاّ الاصطفاء والرؤيا ؛ وهذه حال كل أنبياء الله . فما عدا الاصطفاء بالرؤيا للايمان بالكتاب ، (الشورى 52) ، والأمر بالدعوة له ولاسلامه (النمل 91) ، كان محمد في شخصيته عبقرية دينية ، وعبقرية سياسية ، وعبقرية دبلوماسية ، وعبقرية عسكرية ، وعبقرية إدارية ، وعبقرية تشريعية ، وعبقرية أدبية . وهذه العبقريات هي التي أهلته للقيام
بالدعوة القرآنية خير قيام . وهذه العبقريات التي قد لا تجتمع لرجل ليست من الوحي والتنزيل في شئ . لذلك نستطيع أن نقرّر أن محمدا ليس معجزة من معجزات القرآن ، ولا وجها من وجوه اعجازه . ولا دليلا من أدلة هذا الاعجاز .
- عدد الزيارات: 14961