قصة الناسخ و المنسوخ ، و الإعجاز فى التنزيل - قصة النسخ وغرائبها و شبهاتها
أولا : قصة النسخ وغرائبها و شبهاتها
1 – لكن النسخ فى التنزيل القرآنى امر واقع ، بإجماع الأئمة . قال السيوطى : و التأليف فى الناسخ و المنسوخ " أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون ... قال الأئمة ، لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ و المنسوخ . و قد قال على لقاض : أتعرف الناسخ و المنسوخ؟
قال : لا ! قال : هلكت و أهلكت " ! و قد عاد العلماء ، مثل النحاس و ابن حزم فى كتابيهما ( الناسخ و المنسوخ ) نيفا و مئتى آية فى المصحف العثمانى . و اقتصرها السيوطى فى ( الاتقان 1 : 23 ) على عشرين موضعا . و ذلك من دون الذى اسقطه عثمان عند جمع القرآن ، و من دون ما اسقطه جبريل و محمد عند معارضة القرآن كل سنة .
2 – و النسخ على أنواع
بمعنى الإزالة . و منه قوله : " فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته " .
و بمعنى التبديل . و منه قوله : " و اذا بدلنا آية مكان آية " .
و بمعنى التحويل ، كتناسخ المواريث ، بمعنى تحويل الميراث من واحد الى واحد .
و بمعنى النقل من موضع الى موضع . و منه ( نسخت الكتاب ) اذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه و خطه – و فى وقوع النسخ بالنقل خلاف .
أما النسخ بالإزالة أو الرفع من التنزيل ، و التبديل فى التنزيل ، و التحويل فى أحكام القرآن ، بإبطال حكم و إقامة حكم مكانه ، فهو أمر واقع فى الأنواع الثلاثة .
3 – و تقسم سور القرآن باعتبار الناسخ و المنسوخ الى أربعة أقسام
قسم ليس فيه ناسخ و لا منسوخ ، و هو ثلاث و أربعون سورة .
و قسم فيه الناسخ و المنسوخ معا و هو خمس و عشرون سورة .
و قسم فيه الناسخ فقط و هو ستة .
و قسم فيه المنسوخ فقط و هو أربعون .
و هكذا يعدون الآيات الناسخة و المنسوخة ، على قول الزركشى (البرهان في علوم القرآن ج 2 ص 44) فى احدى و سبعين سورة .
4 – و الناسخ على أنواع
نقل السيوطى عن مكى : " فرض نسخ فرضا ، و لا يجوز العمل بالأول ، كنسخ الحبس للزوانى بالحد . و فرض نسخ فرضا ، و يجوز العمل بالأول كآية المصاهرة . و فرض نسخ ندبا كالقتال ، كان ندبا فصار فرضا . و ندب نسخ فرضا كقيام الليل نُسخ بالقراءة فى قوله : " فاقرأوا
ما تيسر من القرآن " .
5 – و المنسوخ على أضرب
أحدها : ما نُسخ تلاوته وحكمه – وهو نوع من القرآن نزل ثم رُفع .
الثاني : ما نُسخ حكمه دون تلاوته . وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة .
الثالث : ما نُسخ تلاوته دون حكمه ... وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، وهي التي نقلوا عنها قول ابن عمر : "قد ذهب منه قرآن كثير" ! وقول عائشة : "قبل ان يغيّر عثمان المصاحف" ! وقول ابي موسى الأشعري : "نزلت سورة نحو براءة ورفعت" ! وقول عمر وعبد الرحمان عوف : "اسقطت في ما اسقط من القرآن" ! وقول ابن عمر : "إنها ممّا نُسخ فالهوا عنها" ! ... " والسبب في رفع التلاوة هو الاختلاف"( الاتقان 1: 25 – 27) .
6 – ومن غرائب النسخ في التنزيل القرآني ما أورده السيوطي ايضا(الاتقان 1: 24) :
"قال بعضهم : ليس في القرآن ناسخ إلا والمنسوخ قبله في الترتيب إلا في آيتين : آية العدة في (البقرة) ، وقوله : "لا يحل لك النساء من بعد" . وزاد بعضهم ثالثة ورابعة .
"وقال ابن العربي : كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولّي والاعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف (براءة 5) نسخت مائة وأربعا وعشرين آية ! ثم نسخ آخرها أولها" !
"وقال أيضا : من عجيب المنسوخ قله تعالى : "خذ العفو ..." فإن أولها وآخرها وهو (وأعرض عن الجاهلين) منسوخ ، ووسطها محكم ، وهو (أمر بالعرف) .
"وقال : من عجيبه أيضا آية أولها منسوخ ، وآخرها ناسخ ، ولا نظير لها وهي : "عليكم انفسكم ، لا يضركم مَن ضلّ إذا اهتديتم" ، يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا ناسخ لقوله ؛ "عليكم أنفسكم" .
"وقال السعيدي : لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله "قل : ما كنت بدعا من الرسل" ، مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية .
"وقال شيدلة : يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخا ... يمثل له بآخر سورة (المزمّل) فإنه ناسخ لأولها ، منسوخ بفرض الصلوات . وقوله "انفروا خفافا وثقالا فهو ناسخ لآيات الكهف ، منسوخ بآيات العذر .
7– والغرابة الكبرى أن يقع النسخ أثناء التنزيل القرآني ، فيضطر جبريل الى معارضة القرآن كل سنة ليرفع المنسوخ أحيانا ، ويضع الناسخ أحيانا . وفي العرضة الأخيرة "بيّن فيها ما نُسخ وما بقي" . ومع ذلك فقد بقي ناسخ ومنسوخ كثير كتبه علي في مصحفه ، واسقطه عثمان . ومع ذلك أيضا فقد بقي ناسخ ومنسوخ في المصحف العثماني : مما يدل على أن النسخ كان كثيرا في القرآن .
وهكذا فالظاهرة الكبرى ما قاله ابن حزم : "إعلم أن نزول المنسوخ بمكة كثير ، ونزول الناسخ بالمدينة كثير" ! وهذا يعني ان القرآن المدني نقض في أحكامه القرآن المكي .
فإن أول ما نُسخ من القرآن استقبال بيت المقدس بآية القبلة ، وصوم عاشوراء بصوم رمضان (في البقرة) كما نقلوا عن ابن عباس . "قال مكي : وعلى هذا فلم يقع في القرآن المكي ناسخ" .
والسر كل السر ، في القول بالناسخ والمنسوخ ، هو أكثر من تصريح القرآن بوجود النسخ (البقرة 106) ؛ انه بسبب وجود معارضة بيّنة في أحكامه . "قال ابن الحصار : إنما يُرجع في النسخ الى نقل صريح عن رسول الله ص ، أو عن صحابي . قال : وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به ، مع علم التاريخ ليُعرف المتقدم والمتأخر . قال : ولا يُعتمد في النسخ قول عوام المفسرين ، بل ولا اجتهاد المجتهدين ، من غير نقل صريح ولا معارضة بيّنة"( الاتقان 1: 24) .
فيجب القول بالنسخ "عند وجود التعارض المقطوع به"
فهل القول المحتوم بالناسخ والمنسوخ ، لرفع التعارض المقطوع به فيه ، والمعارضة البينة ، هو من الاعجاز في التنزيل ؟
وتزيد الشبهة الضخمة القائمة ، لوجود الناسخ والمنسوخ في المصحف العثماني ، على صحة التنزيل واعجازه ، من اسقاط عثمان من القرآن ، كل ما جمعه علي في مصحفه من الناسخ والمنسوخ بعد إسقاط جبريل منه عند معارضته وهكذا بعد محاولة النبي ثم محاولة الصحابة لم يسلم النص العثماني من النسخ فيه .
وهذا الاسقاط من القرآن أولاعلى يد النبي ، ثم على يد جماعة عثمان ، للتخلّص من كثرة المنسوخ ، انما هو البرهان القاطع على أنه ليس في التنزيل القرآني اعجاز مانع .
وغرائب النسخ وعجائبه التي يلحظها الأئمة ، كما رأيت ، ليست من "دلائل الاعجاز" في التنزيل القرآني .
أجل "ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى" ؛ فإنما "تتبدّل الأحكام بتغيّر الأزمان" ما بين زمان وزمان ، وكتاب وكتاب ، ونبي ونبي . لكنّ مبدأ النسخ نفسه ، في التنزيل الواحد ، على يد النبي الواحد ، في الكتاب الواحد ، لا يصح من
الحكيم العليم . هذا ما يسميه أهل الكتاب : بَدَاءٌ كالذي يرى الرأي ثم يبدو له . واذا اعتبرنا أنّ النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ ، كان التنزيل مدعاة للتهكم ، لأن الناسخ والمنسوخ قد يحصلان ما بين ليلة وضحاها ، وفي آية واحدة قد ينسخ آخرها أولها ! وحاشا للحكيم العليم أن يلهو في التنزيل ، وأن يسخّره لأحوال عابرة .
فمهما قيل في تبرير النسخ القرآني ، فإنه شبهة ثابتة على الاعجاز في التنزيل . وهي شبهة مثلّثة : شبهة على رفع المنسوخ في عرضات القرآن المتواترة على جبريل ، شبهة على اسقاط الصحابة للمنسوخ الذي كان يحفظه مصحف علي بن أبي طالب ؛ شبهة على المنسوخ الموجود في المصحف العثماني ، والذي أفلت من رقابة عثمان وجماعته .
فكان المنسوخ سببا في ذهاب قرآن كثير على يد النبي ثم على يد صحابته .
والمشكل الأكبر ان الناسخ والمنسوخ كلاهما تنزيل من اللوح المحفوظ ، بواسطة جبريل ، على النبي : فكيف يكون "التعارض المقطوع به" بين الناسخ والمنسوخ مكتوبا منذ الأزل في اللوح المحفوظ؟ وكيف يليق بالحكيم العليم تنزيل المنسوخ والناسخ معا في كتاب واحد ، وفي سورة واحدة ، وفي آية واحدة ؟
إن النسخ القرآني ، كما وصفوه ، تحدّ للعقل وللنبوة وللتنزيل .
- عدد الزيارات: 12113