شهادة الحواريين - اعتراضات البعض بقولهم
الأمر الثالث اعتراضات البعض بقولهم "كيف يتسنى لله أن يصير إنساناً ويظهر بصفات بشرية؟ كيف يقوم الحادث مقام القديم ويصير الخالق مخلوقاً والمطلق مقيداً والغير محدود محدوداً؟" ورداً على ذلك نقول أن الكتاب المقدس مع أنه يعلمنا تجسد كلمة الله لم يقل أصلاً أن الذات الإلهية قد تغيرت إلى ذات إنسانية أو فقدت شيئاً من صفاتها الإلهية فالمسيحيون يعتقدون كما يعتقد المسلمون أن غير المحدود لا يصير محدوداً والخالق لا يصير مخلوقاً. ولكن الكتاب المقدس الذي أعطاه لنا الله بإعلان روحه القدوس يعلمنا أن القدير قد جعل نفسه في علاقة مع المخلوقات أمكنه بها إعلان نفسه لهم وإن حاولنا أن ننكر هذا فكأننا رفضنا كل وحي وجعلنا كل الأنبياء والرسل كذابين منافقين- وإذا أراد الله ربح محبة الناس ورأى من الضروري إعلان محبته لهم أفلا نؤمن أن الله الذي لا تحد حسناته قد تنازل وأرسل كلمته فأخذ صفات إنسانية لكي يفهم الناس معنى الكلمة الإلهية وبواسطته نعرف ونحب أباه السماوي- إن تعليم الثالوث الأقدس ربما يُسهل علينا فهم معنى التجسد فلا تبقى صعوبة بعد أمام المسلم الذي لا يؤمن بهذه التعاليم التي يقبلها العقل السليم وتطابق كلام الله وإن أنكرنا إمكانية تنازل الله هذا فكأننا قد اعترفنا بأن الله غير قادر على كل شيء. وأما الذين يقولون أن هذا التنازل مغاير لمقام الله الأسمى فالأولى بهم أن يفهموا أن الله الحكيم قادر أن يحكم لنفسه بالأمور اللائقة أكثر منهم. لقد أظهر الله أن الغير مستطاع لدى الإنسان مستطاع لديه تعالى فالإنسان لا يفهم كيف أن الروح الغير الهيولي يدخل في جسم هيولي. نعم وإن كان يعرف أن فيه روحاً وهذا الروح متسلط وحاكم على الجسم لكنه يجهل كيفية اتصالهما ببعض ولو لم نختبر ذلك لكنا نعتقد أنه من المستحيلات. أنه وإن كان كل من الجسم والروح له سلطة على الآخر في زمن الحياة فقط ولكن الروح الغير هيولي غير مخلوط ولا مركب مع الجسم الهيولي. وعلى هذا القياس فإن طبيعة كلمة الله الإلهية لم تصر بواسطة التجسد مخلوطة أو مركبة مع ذات المسيح الإنسانية.
بل وأكثر من ذلك أن الله لم يدخل في علاقة مع مخلوقاته فقط بإرساله الوحي على رسله ولكن بخلقه الكون. ولا يمكنا أن ننكر وجود علاقة بين الخالق والمخلوقات التي صنعها. إننا نعرف أنه توجد علاقة ولكننا لا نفهم هذه العلاقة ما لم نؤمن بتعليم الثالوث الأقدس وإن أنكرنا هذه العلاقة فكأننا نعلن أننا كفرة ملحدون.
وكما أنه لم يحدث تغيير في ذات الله الكاملة الطاهرة من جراء خلقه وحفظه للعالم بعد أن جعل نفسه في علاقة مع المخلوقات كذلك لم يحدث أي تغيير في طبيعة كلمة الله الإلهية بعد أن دخلت في علاقة مع بني البشر. وكلتا هاتين المسألتين الهامتين اللتين هما خلق العالم وتجسد كلمة الله الإلهية هما من المعضلات العويصة الفهم في ذات الله الغير المدركة ولذا كان فوق عقل الإنسان المحدود أن يدركها تماماً فعلى كل عاقل تقي أن يتحد مع صاحب المزامير مسبحاً الله العلي العظيم بقوله: "إلى دهر الدهور سنوك. من قدمٍ أسست الأرض والسموات هي عمل يديك هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مزمور 102: 24-27). أن أشعة الشمس تصل وتؤثر في كل ما على الأرض ولكن اتصالها مع هذه الأشياء لا يغير أبداً في طبيعتها. أيتجاسر أحد إذاً أن يحد حكمة الله وقوته ومحبته وحنوه ويقول (يستحيل أن أؤمن بتجسد كلمة الله في المسيح لأن عقلي لا يقبل تعاليم كهذه لكونها محقرة لله تعالى بأنها تظهر أنه يتغير وهو الغير متغير). أقول أنه يحسن بك أولاً أن تصير إنساناً عاقلاً تقياً باحثاً عما علمه لنا بواسطة أنبيائه ورسله في ما يختص بهذا الموضوع الهام ثم بعد ذلك يمكنك أن تقبل هذه التعاليم تعاليم الله إله الحق- إن حكمة الله وقوته وحسناته لا تقصى ولا تستقصى فهي غير محدودة ولكن الإدراك البشري صغير محدود وكما أن الفنجان الصغير لا يمكن أن يسع ما في الأوقيانوس الواسع هكذا لا يمكن لعقل الإنسان أن يدرك أعمال وأفكار الله العظيمة الغير محدودة.
وسنوضح بمشيئة الله في الفصل الأخير من الباب الثاني أن إعلان الذات الإلهية في المسيح يسوع ربنا هي جامعة لرحمة الله وعدله ومحبته وقداسته. والآن لنذكر شهادة العهد القديم لألوهية المسيح حتى نرى هل تتفق أقوال الأنبياء في العهد القديم مع ما علمه كلمة الله نفسه وما علمه الرسل أيضاً في ما يختص بهذا الموضوع.
- عدد الزيارات: 16752