حالة الإنسان الأصلية - الضمير والعقل يشهدان أن الإنسان خُلق صالحاً على صورة الله وشبهه، ثم سقط
هذا هو تعليم الكتاب المقدس، لأن الضمير والعقل يشهدان أن الإنسان خُلق صالحاً على صورة الله وشبهه، ثم سقط، وأن لا وسيلة لإرجاعه إلا بواسطة إعادة خلقه على صورة القداسة التي سقط منها ليكون أهلاً لسكنه مع الإله القدوس ورؤية وجهه ذي الجلال والإكرام.
فإن كنا نقابل بين تعاليم الكتاب المقدس وكتب الأديان الأخرى من حيث المبادئ المذكورة هنا، نجد فرقاً عظيماً، لأن تلك الكتب لا تفيدنا شيئاً بخصوص مقصد الله في خلقه الإنسان، ولا تشير أقل إشارة إلى وجوب تطهير القلب وتقديس الروح، وكل ما جاء فيها بهذا الصدد محصور ضمن أعمال الوضوء والغسل التي لا تصل إلا إلى الجسد، والمغفرة في تلك الكتب تلتمس من باب الإثابة على الحج والأضحية والصدقات. ونحن لا ننكر أن الوضوء والغسل لازمان لتنظيف الأبدان، ولكن أين هي الأبدان من القلوب؟ قال المسيح زاجراً ولائماً فرقةً من اليهود تصوروا أن الغسل يقربهم إلى الله "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ المُرَاؤُونَ، لِأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! أَيُّهَا الفَرِّيسِيُّ
الأَعْمَى، نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّا"ً (بشارة متى 23 :25 و26). وكذلك الأعمال الصالحة وفي جملتها الصدقات يجب أن تكون ناتجة عن محبتنا لله وامتثالاً لمشيئته وإظهارا لشكرنا على سابق مغفرته ورحمته، وليس لكي نستعطفه ونحمله على أن يغفر لنا. إن مثل هذه الأحاسيس تقلب العمل الصالح إلى عمل رديء، لأن الديان العادل لا يقبل الرشوة ليغفر للمذنب ذنبه، فقيمة الأعمال الصالحة تُقاس على البواعث التي تبعث إليها، والله عليم بتلك البواعث ولا تخفى عليه خافية.
ولأجل أن نعلم مشيئة الله ونستعين على الانقياد إليها تعلَّمنا أسفار العهد القديم والجديد ما يجب علينا أن نعمله وما يجب أن نجتنبه، وعدا ذلك فإنه لخص الشريعة الأخلاقية في وصايا مختصرة وردت في أجزاء مختلفة من التوراة. ففي أسفار موسى نجد الوصايا العشر (خروج 20 :1-17 وتثنية 5 :6-21) وفي أواخر أسفار العهد القديم نجد خلاصة أخرى للشريعة الأخلاقية.
وردت في سفر ميخا النبي "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ الحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِك"َ - ميخا 6 :8.
ينتقد بعضهم على المسيحيين أن ليس لهم شريعة مؤلفة من أوامر ومحظورات، وفاتهم أن الشريعة التي أشرنا إليها في أسفار العهد القديم لا تزال نافذة المفعول على المسيحيين، غير أن لنا في الإنجيل شريعة عظيمة نطق بها المسيح في موعظته على الجبل (بشارة متى 5-7) وعدا ذلك فإنه جمع واجباتنا في آيتين وجمعهما في واحدة (مرقس 28:12-31 ) "فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً، سَأَلَهُ : أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَّوَلُ الكُلِّ؟ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ : إِنَّ أَّوَلَ كُلِّ الوَصَايَا هِيَ : اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى، وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ : تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ، لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْن"ِ (مرقس 12 :28-31) و "وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ ا فْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هكَذَا" (لوقا 6 :31). فمما تقدم نرى أن المسيح وضع مبادئ عمومية جامعة للإرشاد إلى ما ينبغي عمله في كل ظروف الحياة، مع أن غيره من واضعي الشرائع عينوا إرشاداً مخصوصاً لكل عارض يحدث لهم. ومن يقرأ رومية 12 :1-21 و14 :1-8 و1كورنثوس 13 :1-13 وأفسس 4 :1-21 وكولوسي 3 :4 يرى سموّ وقداسة المبادئ المحتمة على المسيحيين أن يسلكوا فيها. لم نؤمر بغسل أيدينا قبل الصلاة، بل أمرنا أن نغسل قلوبنا، ولا أن نحج مرة في العمر بل نكون على الدوام حجاجاً متغربين في الأرض، لأنه ليس لنا فيها مدينة باقية بل نكون قاصدين المدينة السماوية، وكلما قطعنا مرحلة من طريق الحج إلى السماء زدنا تمثلاً واقتداءً بقداسة الله. وعلينا أن لا نصلي خمس مرات أو سبعاً في اليوم بل نصلي في كل حين وبدون انقطاع (1 تسالونيكي
5 :17) أي نصرف حياتنا بجملتها في شركة مستديمة مع الله، ولا أن نقدم ذبائح حيوانية كما كان يقدم اليهود، بل نقدم ذواتنا ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله (رومية 12 :1 و2 و1بطرس 2 :5).
- عدد الزيارات: 14529