Skip to main content

الإعجاز في التاريخ - الشبهات الناجمة عن هذا الواقع المزدوج

الصفحة 6 من 8: الشبهات الناجمة عن هذا الواقع المزدوج

 

ثانيا : الشبهات الناجمة عن هذا الواقع المزدوج

لكن ، على تاريخية القصص القرآني ، شبهات حملت المدرسة العصرية على القول بالتمثيل في القصص القرآني ، أكثر منه بالتاريخ .

الشبهة الأولى أن قصص القرآن أكثره توراتي ، لكنه يختلف أحيانا عمّا في التوراة . ومن السخف ضرب الكتاب بعضه ببعض . فما سبب الفوارق القصصية ما بين القرآن والكتاب ؟ يقول دروزة : "القصص القرآني ، منه ما كان عربيا غير توراتي كقصص هود وعاد ، وصالح وثمود ومدين ؛ ومنه ما كان توراتيا كقصص نوح ولوط وموسى وفرعون مع بني اسرائيل ، وداود وسليمان ويوسف الخ ... وما ورد خصوصا في القرآن ولم يرد في التوراة من قصص ابراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه وقومه وأقواله ومواقفه ودعائه ، وهي في سور (الانعام وابرهيم والأنبياء والشعراء والصافات والزخرف والعنكبوت) . وعدم ورودها في التوراة ، ممّا يسوّغ القول أنها كانت متداولا معروفا في أوساط العرب كمرويات ومنقولات عربية عن الآباء الى الأبناء" .

أجل ، كانت متداولة معروفة في أوساط العرب ، لكن ليس "كمرويات ومنقولات عربية عن الآباء الى الأبناء" – بل عن أهل الكتاب من يهود ونصارى اسرائيليين ، الذين كانوا يروونها عن حرف التلمود أكثر منه عن حرف الكتاب . وهذا ما فات الاستاذ دروزة وأمثاله . فما انفرد به قصص ابراهيم "مع أبيه وقومه وأقواله ومواقفه ودعائه" عن التوراة ، قد ورد مثله في التلمود . لذلك جاء القصص القرآني ابن بيئته الكتابية العربية ، أقرب الى التلمود منه الى الكتاب .

وهذا المصدر الشعبي للقصص القرآني يحمل معه شبهة أخرى : بعد قصة نوح الشهيرة يقول : "تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر إن العاقبة للمتقين" (هود 49) . وبعد قصة يوسف الشهيرة يقول : ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك . وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون" (يوسف 102) . وبعد قصة مريم ، في آل عمران ، وقد طبّقت آفاق الجزيرة ، من الوف النصارى والمسيحيين ،

يقول : "ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك . وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم ، وما كنت لديهم إذ يختصمون" (44) . فكيف يقول بأنها "من أنباء الغيب نوحيه اليك" ؟ وقد كانت متداولة بينهم من التوراة والانجيل ، ومن التلمود والأناجيل المنحولة . وكيف يقول : "ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" القرآن ؟ إنه إشكال ضخم كما يقول دروزة : "إن في الآيات الثلاث اشكالا يدعو الى الحيرة ، ولا يُستطاع النفوذ الى الحكمة الربانية فيه نفوذا تاما" .

أجل ، من يعتبر القرآن ، لفهم خاطئ في بعض تعبيره ، منزلا من لوح محفوظ في السماء ، لا يستطيع النفوذ الى الحكمة الربانية في تلك الآيات المتشابهات . أمّا مَن يعتبر القرآن "تفصيل الكتاب" على حدّ تعبيره (يونس 37) ، كما فصّله أيضا التلمود وبعض الاناجيل المنحولة ، فيعرف أنه "من أنباء الغيب" المنزل في الكتاب ، عند أهل الكتاب ؛ وما كان محمد ، ولا قومه من قبله ، يعرفونه ، قبل تفصيل أهل الكتاب له فيما بينهم ، كما يصرّح بذلك في قوله : "ولقد آتينا موسى الكتاب : فلا تكن في مرية من لقائه ! وجعلناه هدى لبني اسرائيل (من يهود ونصارى) . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 23 – 24) . فما على محمد أن يشك في لقاء الكتاب بواسطة أئمته الذين يهدون محمدا اليه بأمر الله . فالقرآن يتلو "أنباء الغيب" المنزل في الكتاب من قبله ؛ لكنه يفصّلها على حسب هدى أئمة الكتاب الذين يفصلون التوراة والانجيل بحسب التلمود والاناجيل المنحولة التي لديهم . ولا ننس القول الفصل : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) .

وهناك شبهتان أخريان تشكلان مشكلتين . يقول أيضا دروزة : "وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين . أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحا في جزئيات وقائعه ، وحقائق حدوثه . وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمّة ، من بضع الخلاف ، مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة ، وبالثعبان في سورة أخرى ، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني اسرائيل من فرعون ، من قتل الأنبياء

واستحياء النساء ، حيث ذُكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى ، وفي سورة أنه بعد بعثة موسى . فنحن كمسلمين نقول أن كل ما احتواه القرآن حق وواجب الايمان ، وإنّا آمنا به "كلٌ من عند ربنا" . كما إننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه استهدف العظة والتذكير فحسب (لا التاريخ) ، وهما لا يتحقّقان إلاّ فيما هو معروف ومسلّم به إجمالا من السامع ، وان هذا أيضا من الحق الذي انطوى فيه حكم التنزيل ؛ وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحد الذي استهدفه القرآن ، وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة ، لأنها ليست ممّا يتصل بالأهداف والأسس" .

تجاه تلك الشبهات ، أخرجت المدرسة الحديثة في تفسير القرآن ، منذ الامام محمد عبده ، القصص القرآني من دائرة التاريخ الى دائرة التمثيل . نقل صاحب المنار نظرية إمام المدرسة الحديثة ، بمناسبة اسطورة هاروت وماروت التي وردت في (البقرة 102) ؛ فيقول محمد عبده كما نقل رشيد رضا : "بيّنا غير مرة أن القصص جاءَت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار ، لا لبيان التاريخ ، ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الاخبار عن الغابرين . وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل ، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ، ومن عاداتهم النافع والضار ، لأجل الموعظة والاعتبار . فحكاية القرآن لا تعدو موضوع العبرة" .

فالقصص القرآني لم يرد لذاته التاريخية ، والبحث العلمي ، بل للموعظة والعبرة . "وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جدا ، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تُقصد لذاتها ؛ وأن تغنيه عن التكلّف والتجوّز في التخريج والتأويل والتوفيق ، أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع ؛ وأن تجعله يُبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والارشاد والموعظة والعبرة ، ولا يخرج به الى ساحة البحث العلمي ، وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك ، على غير طائل ولا ضرورة" . فليس في القرآن تاريخ مقصود لذاته ، ولا بحث علمي في تاريخ الأنبياء . فالقصص القرآني ، ليس

للتاريخ ، بل للتمثيل والعبرة ، كما يقول أيضا السيد محمد خلف الله : "وفي الجملة ، إن أسلوب القرآن في التعبير عن أفكار الأنبياء والمرسلين أو الأقوام ، لا يشاكل الواقع ، وإنما يمشي على وتيرة واحدة ... والحوار فيه إنما يمثّل أكثر من كل شئ الدعوة الاسلامية ونفسية محمد صلى الله عليه وسلم . فالقصص القرآني ، في موضوعه كما في أسلوبه ، لا يشاكل الواقع والتاريخ ، بل يمثل الدعوة الاسلامية ونفسية محمد ، في اسلوب بياني قصصي .

والعبرة في الواقع التاريخي ، لا في التمثيل البياني ، حين الاستشهاد على صحة النبوة والدعوة بتاريخ الأنبياء وسيرتهم بين أقوامهم . فهل القصص القرآني من الاعجاز في التاريخ ؟

القصص القرآني من متشابه القرآن
الصفحة
  • عدد الزيارات: 12918