Skip to main content

الإيضاحات المختصة بهذا السر الإلهي - بعض عقلاء الإسلام وعلمائهم وأئمتهم يسلمون بوجود تعدد في وحدة الذات الإلهية

الصفحة 5 من 5: بعض عقلاء الإسلام وعلمائهم وأئمتهم يسلمون بوجود تعدد في وحدة الذات الإلهية

ويمكنا هنا أن نذكر كثيراً من الأقوال المأخوذة من الكتب العربية والفارسية ولكن ظاهر مما جئنا به أن بعض عقلاء الإسلام وعلمائهم وأئمتهم يسلمون بوجود تعدد في وحدة الذات الإلهية وتتضح لنا أيضاً هذه النتيجة:
أولاً - أن المؤلفين المقتبس عنهم يميزون الذات الفائقة المطلقة الغير مدركة في كلا التجلي الأول والتجلي الثاني وهم معترفون بأن هذه الذات لا يمكن إدراكها بالفكر والتأمل.
ثانياً - أنهم يميزون التجلي الأول أو التعين الأول عن هذه الذات الغير مدركة بطريقة تجعل الذات ظاهرة للذات عينها ويفرقون بين إدراك الذات وبين الذات كما قال جامي. وخلاصة ما تقدم حسب قول الجيلاني أن التعين الأول يسمى الإدراك العام وقد قال الكاشاني أيضاً في هذا المقام أن التجلي الأول هو الحضرة الإلهية أو الحضرة الأحدية.
ثالثاً - قد ميزوا بين التجلي الثاني أو التعين الثاني وبين التجلي الأول بأن قالوا أن أعيان الممكنات الثابتة (أي أصول وحقائق الأشياء المخبية في ذات الله) تظهر فقط في معرفة الله ومعنى ذلك أن الله لما أراد أن يخلق الأشياء ادخلها لأول مرة في حيز علمه وأرادته. فالتجلي إذاً معناه قوة الفعل وإرادة الذات كما أن معنى التجلي الأول هو المعرفة الايدية للذات هكذا قد رأينا بعض علماء المسلمين سعوا في توضيح الذات المقدسة بكونها نوعاً من تثليب لأنهم يفصلون الذات عن العلم والعلم عن قوة الإرادة والفعل ويقولون أن الله لا يعرف إلا من التجلي الأول أو الثاني وبهذا التجلي الثاني ينال عبدة الله راحة وسلاماً في قلوبهم. والحقيقة أن كل هذه النظريات الفلسفية بعيدة عن الإسلام نفسه وإنما أفسح لها مفكرو الإسلام مجالاً لعلمهم أن الإيمان بوحدة الله المطلقة المجردة لا يبرهن على خلق الله للعالم بل ينافي عمل الله ويبطل تنزيهه عز وجل وإذ لم يكن لأولئك المفكرين رغبة لتعلم كلمة الله عمدوا إلى الاسترشاد في فلاسفة الوثنيين الذين لم يتوصلوا إلى معرفة الله الحقة. ولنأت هنا بمثالين لبيان وجه الشبة بين النظريات الإسلامية السالف ذكرها والنظريات اليونانية قديماً، فقد قال ارسطاطاليس الفيلسوف اليوناني "إن أسمى مظاهر الفلسفة أو علم اللاهوت هي التي تبحث عن ذلك الكائن الأبدي الغير متغير المنزه ومما لا شك فيه أنه يوجد كائن أبدي مبدع كل حركة لا يتغير بل هو مصدر كل تغيير وهو قوة أبدية ضرورية وعليه تتوقف السماء والطبيعة وحيث أن الله منبع الخير ومستقل بذاته، فينشغل بالتأمل لأن هذا هو أسمى مظهر من مظاهر الحياة. وحيث لا يوجد من هو أحسن منه فهو يتأمل في نفسه أيضاً." وتكلم بن هلال الفيلسوف السوري الأصل وكان يكتب باليونانية ما يوافق أقوال ارسطاطاليس .
وللفلاسفة الهنود القدماء آراء أخرى عن الذات الإلهية وعن كيفية تكوين العالم. وقد اختلفت آراؤهم عن علماء المسلمين لأن هؤلاء اعتقدوا بوجود إله ذاتي ولكن إذا أمعنا النظر في زعمهم أن الوجود الأصلي يجب اعتباره كوحدة مجردة وأن التعدد نشأ عن الوحدة شيئاً فشيئاً فنجد مشابهة ليست بقليلة بين أقوال فلاسفة الهند واليونان وبين علماء الإسلام وهذا يتضح مما يأتي:
قيل في الريج فيبرا "ذلك الشيء الواحد تنفس بدون نسمة وبغيره لم يكن شيء."
وفي الأبانشاد قيل "في البدء لم يكن إلا الكائن الوحيد لا ثاني له فتفكر وقال: دعني أصير كثيرين دعني أنشأ فعند ذلك أخرج ناراً (اهـ) ثم يقول أنه بهذه الكيفية صدر الماء من النار وكذلك صدرت الأرض من الماء وهكذا صار الواحد كثيراً.
(يقول المؤلف) أراد جميع هؤلاء الفلاسفة أن يوضحوا ذات الله ووجود الكون بطرق مختلفة وأشكال متنوعة ولكنها كلها تقريباً على نمط واحد وكلهم أرادوا أن يعلموا ما لا يقدرون على فهمه وكانت معرفتهم ناقصة بل هي الجهل بعينه وكانوا كلهم يتخبطون في ظلمات جهلهم وكان مثلهم مثل الثلاثة عميان الذين وصف كل منهم الفيل بقدر ما لمست يده فصارت حكاياتهم مضحكة وقد طمست بصيرة جميع الناس من حيث معرفة الله سبحانه وتعالى ولو لم يعلن الله لهم نفسه ولو لم يفتح أعين أرواحهم ليروا نور العالم يستحيل عليهم أن يدركوا الآلهة الغير منظورة- نعتقد نحن المسيحيين وكذا أخواتنا المسلمين أن الله أرسل كلامه إعلاناً لنا فمن الحكمة أن نقبل الحقائق المختصة بذات الله التي يكلمنا عنها الكتاب المقدس ولا يجب أن نسمح للتعصب أن يعمي قلوبنا ويطمس أبصارنا فنبتعد عن النور ونستبدل فلسفة الإنسان بإعلان الله. إن الله قد أعلن لنا كتابة لأن الإنسان عاجز عن إدراكه ومعرفته "ألم يجهل الله حكمة هذا العالم لأن إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة فأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله" (1كورنثوس 1: 20-24). فتعليم الثالوث الأقدس في الوحدة الإلهية هو بلا شك سر ولكن بمقارنته مع سفسطة الفلاسفة نجده أسهل بكثير منها، نعم وربما يكون في تعاليم الكتاب المختصة بذات الله أمور فوق عقولنا ولكنها ليست مناقضة للعقل أبداً كالنظريات الفلسفية التي نجدها في كتب الفلاسفة. ومن جهة أخرى هل تعليم الكتاب المقدس عن الثالوث في الوحدة يقودنا إلى الاعتقاد بوحدة الكائنات أو يقودنا إلى مذهب "اللاأدرية" كما تفعل الآراء البشرية التي تجعل عبادة الله سخافة أمام أعيننا لأنه منَ من الناس يقدر أن يزين الكون كما زينه الله أو يعبد إلهاً مجهولاً؟ إن عقيدة الحلول تضرب بعصا من حديد على التمييز بين الخير والشر وكذا عقيدة نكران الله وبذلك تمحي الآداب. إن تعليم الثالوث يقود الإنسان إلى معرفة الله بواسطة كلامه وروحه القدوس ويرشده إلى الحق فيكره الخطية ويرغب في القداسة ويعبد الله بالروح والحق ولا يجعلنا بعد ذلك أن نعتقد في القضاء والقدر، بل نعرف أن كل شيء بمشيئة معمولاً بمشيئة الإله الكلي الحكمة والخير والقداسة والمحبة، الآب السماوي. إذاً فالحكمة المستمدة من فوق هي الحكمة التي ترشدنا لقبول ما علمنا الله إياه عن ذاته المقدسة والتي تجعلنا ننبذ النظريات الفلسفية الأرضية التي لا أساس لها والتي لا يقبلها لا العقل ولا الضمير.
من هنا يتضح لحضرات القراء أنه لم ينجح فيلسوف واحد بما له من الذكاء وقوة الإدراك في حل ذلك السر العظيم المختص بذات الله تعالى والجميع قد خابت آمالهم ومجهوداتهم في الوصول إلى معرفة الله لأن المحدود لا يمكنه أبداً أن يدرك الغير المحدود ولا يمكن للإنسان أن يتعلم عن ذات الله إلا ما أعلنه الله في كتابه وفي ذلك الذي هو كلمة الله المتجسد وكما أن أشعة الشمس لا تحتاج إلى مشعل من نار يزيد من نورها، كذلك تعاليم الله وكلامه لا يحتاج إلى نظريات الفلاسفة وآرائهم والسبب الذي حداً بنا إلى ذكر بعض أقوال الفلاسفة هو لكي نظهر أنهم شعروا أن الإيمان بوحدة الله المحضة مخالف للعقل فاضطروا أن يسلموا بوجود الكثرة في الذات الإلهية وليفهم القراء الكرام أن تعليم العهد الجديد لا يخالف العقل ولكنه ضروري لإرواء ظمأه واشتياقه للمعرفة. والآن لا يجب أن يبقى شك لدى كل مؤمن عاقل يدرس الكتاب بفكر خلو من التعصب في الإيمان بحقيقة تعليم الثالوث الأقدس خصوصاً إذا كنا نعتبر هذا التعليم واحداً من التعاليم الكثيرة الغير المدركة المعلنة في الكتاب المقدس. إن كلام الله يظهر لنا أن الله واحد وأن وحدة الذات الإلهية كائنة في ثلاثة أقانيم متحدة في الذات والقوة والأبدية وهذه الثلاثة هم الآب والابن والروح القدس والمسيحيون بقبولهم هذا التعليم يؤمنون بأن المسيح ابن الله المخلص الوحيد والوسيط الواحد هو واحد مع الآب وأيضاً يقبلون تعاليم الأنبياء والرسل الذين تكلموا بقوة الروح القدس ويعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ويخدمونه وينبذون التعاليم القائلة بوحدة الكائنات وبمذهب اللاادرية ويكونون بعيدين عن اليأس الذي يعمي قلوب وحياة أولئك الذين يعتقدون في القضاء والقدر ويثقون بالآب السماوي المعلن في يسوع المسيح بل وأكثر من ذلك، يتقدمون في معرفة الله العلي وذاته مسبب الأسباب ويسيرون في هذه الحياة بصبر وإيمان حتى تنتهي أيام حياتهم القصيرة هنا على الأرض قائلين مع الرسول "لأننا نعلم بعض العلم… فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت" (1كورنثوس 13: 9و12). إن تعليم الثالوث الأقدس في الوحدة يجعلنا نؤمن بتجسد كلمة الله الذي هو واحد مع الآب ولو لم يكن ابن الله قد تجسد لكان الله قد تركنا نحتمل الآلام والأحزان والموت كالآلهة التي تكلم عنها ابيكورس الفيلسوف الوثني. نعم وحتى الإسلام مائل إلى ذلك أيضاً كما يظهر من الحديث المنسوب لله في قوله "ولا أبالي". أما المسيحيون فلا ييأسون أبداً ما دام الإنجيل الذي يتكلم عن سر الثالوث في الوحدة يظهر لنا محبة الله في كلمات انبه التي تفوه بها المسيح إذ قال "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية."

الصفحة
  • عدد الزيارات: 11925