Skip to main content

هل إنباء المستقبل فى القرآن نبوءة من علم الغيب؟ - قصة الروم

الصفحة 9 من 9: قصة الروم

ثامنا : قصة الروم
يرون نبوءة تاريخية كبرى فى قوله : " غلبت الروم فى أدنى الأرض ، و هم من بعد غلبهم سيغلبون فى بضع سنين ، لله الأمر من قبل و من بعد ، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم ، وعد الله ، لا يخلف اله وعده ، و لكن أكثر الناس لا يعلمون " ( الروم 2 – 6 ) .
قصة الروم هذه لا تمت الى السورة التى تستفتحها بصلة . فلا يعرف زمانها . ثم ان لها قراءتين على المعلوم ( غلبت ) و على المجهول ( غلبت ) . و بحسب اختلاف القراءة قد تعنى الروم و الفرس ، أو الروم و العرب . و آية مجهولة المعنى لا تكون نبأ غيبيا .
و ( أسباب النزول ) تؤيد ذلك ، قال السيوطى : " أخرج الترمذى عن أبى سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت ( آلم غلبت الروم ) الى قوله ( بنصر الله ) يعنى بفتح العين . و أخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه " – فعلى القراءة بالمعلوم ان الآية تسجيل واقع تاريخى مشهود ، يتوسم فيه المسلمون خيرا لهم تجاه المشركين . " و أخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب قال : بلغنا ان المشركين كانوا يجادلون المسلمين و هم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلعم فيقولون : الروم يشهدون أنهم أهل كتاب ، و قد غلبتهم المجوس ، و أنتم تزعمون أنكم ستغلبونا بالكتاب الذى أنزل على نبيكم .
فكيف غلبت المجوس الروم و هم أهل كتاب ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم . فأنزل الله ( آلم غلبت الروم ) . و أخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة و يحيى بن يعمر " – واقع الحال قبل الهجرة لا يسمح بمثل هذا الحوار ، فقد ظل المسلمون مغلوبين على أمرهم فى مكة حتى اضطروا إلى الهجرة الى يثرب . مع ذلك يستنتج السيوطى : " و قتادة فى الرواية الأولى على قراءة ( غلبت ) بالفتح لأنها نزلت يوم غلبهم يوم بدر . و الثانية على قراءة الضم ( غلبت ) فيكون معناه ، و هم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصح معنى الكلام ، و إلا لم يكن له كبير معنى " – فكبير المعنى عنده ان المسلمين سيغلبون الروم بعد انتصارهم على الفرس . و هذه نظرية ثالثة فى معنى الآية .
و نبأ له ثلاثة معان ليس بنبوءة غيبية .
و قد تكون القراءة على المجهول ، أى انتصار الروم على الفرس بعد هزيمة الروم ، هى الفضلى ، فى شبه اجماع . لكن على هذه الحال ، ليس فى الخبرمعنى النبوءة الغيبية ، " لأنها نزلت يوم غلبهم ، يوم بدر " ، انها تسجيل حدث مشهود عام 624 م فرح به المسلمون لنصر الإيمان ، كما فرحوا بنص بدر على مشركى العرب . و التاريخ خير شاهد : فقد بدأت حملة الفرس الظافرة عام 612 م فاحتلوا سورية سنة 622 م ، و فلسطين 614 م و مصر 618 م . و ظهر هرقل فسار بحملة الثأر الظافرة سنة 622 م ، و سنة 624 م كان طرد الفرس من سوريا ، يوم نصر بدر . و ظل هرقل زاحفا حتى احتل عاصمة فارس ، و استرجع منها ذخيرة الصليب . فما يسمونه نبوءة فى آية الروم ليس سوى واقع تاريخى مشهود .
و هناك نحو اثنين و عشرين خبرا من تلك النبوءات المزعومة ، اقتصرنا على أشهرها . و أنت ترى تهافت التحليل لرؤية نبوءة غيبية حيث لا شىء من ذلك .
و القول الفصل ، فى باب الإخبار بالغيوب ، أن علم الغيب المجهول معجزة إلهية ، و القرآن ينفى عن محمد كل معجزة منعا مبدئيا مطلقا ( الاسراء 59 ) و منعا فعليا قاطعا ( الانعام 35 ) .
قال الاستاذ دروزة ( 1 ) : " أما التأييدات و الإلهامات الربانية للنبى صلعم التى تضمنت أخبارها آية قرآنية عدة ... مثل الذى جاء فى سورة ( التحريم 3 ) فإنها كما هو ظاهر من
نصوصها و روحها لا تدخل فى عداد معجزات التحدى . و بالتالى فإنها ليس من شأنها نقض الموقف السلبى العام الذى تمثله الآيات القرآنية " .
و فاتهم أيضا الاسلوب البيانى و الصوفى فى القرآن : فهو يأتى بالتعميم فى موطن التخصيص ، فيأخذ الواقع باطلاق التعبير مداه الحقيقى ! و هو ينسب العلل و العوامل فى المخلوقات الى العلة الأولى فى الوجود ، فينظر من تلك الزاوية الى الحياة الدنيا نظرة صوفية ، لا نظرة واقعية تاريخية . و هذا الاسلوب القرآنى المزدوج هو الذى يعطى " تلك التأييدات و الإلهامات الربانية " ، فى أسلوب عرضها ، صيغة النبوة الغيبية ، مع انها ليست من علم الغيب فى شىء . فلو فطنوا لاسلوب القرآن لما وهموا .
و كيف فات القوم تصريح القرآن القاطع : " و ما أعلم الغيب " ( الانعام 50 ) . و لم يكشف له الله الغيب ، فهو يشهد على نفسه : " لو كنت أعلم الغيب ، لاستكثرت من الخير ، و ما مسنى السوء " ( الاعراف 188 ) . بعد هذا الاعلان القرآنى الصريح القاطع ، كيف يجوز لهم أن يروا فى القرآن نبوءات من علم الغيب ؟ ! إنهم يكابرون و ينقضون صريح القرآن .
فليست أنباء المستقبل فى القرآن نبوءات من علم الغيب . ينقض ذلك نقضا مبرما " الموقف القرآنى السلبى من كل معجزة " . إنما هى من " متشابه " القرآن فى أسلوبه البيانى و الصوفى .

الصفحة
  • عدد الزيارات: 18127