Skip to main content

بحثاً عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ - الصُّوفيِّةُ

الصفحة 12 من 12: الصُّوفيِّةُ

الصُّوفيِّةُ

لدينا محاولة أكثر تأخراً تهدف إلى إعداد مبدإٍ جديدٍ لتفسير حياة مُحَمَّدٍ هي للبروفيسور ج. سي. أرشر في دراسـته العلميّة المطبوعة في سلسلة ييل الشـَّرقيّة ، و المعنونة " العناصر الصُّوفيّة لَدُن مُحَمَّدٍ " ( هافِن الجديدة ، 1924 ) . لقد شرع الكاتب بنقدٍ قويٍّ للنّظريّةِ البَاثُولُوجِيّةِ ، و بينا أقرَّ بأنّه يمكن أنْ يكون هناك عناصر بَاثُولُوجِيّة في حياته ، فإنّه شدّد على أنّ الأمر الجوهريّ في تجربته هو أنّه كان صُوفيّاً ، و لهذا فإنّ كتابه كان للبرهنة على أنَّ " مُحَمَّداً الصوفي هو شخصيّة أعظم مما كنا نحلم . " و زعم أنّ " مُحَمَّداً كان صُوفيّاً بالمعنى التّقنيِّ ، و أنَّ ذلك ، ليس في الموقف العقليِّ فحسب ، بل في الممارسة العمليّة " . لكنْ حينما ننظر إلى عرضه المذهل ، فإنّ كلَّ ما نجده هو تأويل مصفى لنصوص قُرْآنيّة قليلةٍ ، و أغلبها لسوء الحظِّ محل شكٍ ، و النّظريّة القائمةُ على أساس غيرِ وطيدٍ القائلة بتأثير الزُّهاد المسِّيحيّين في حياة مُحَمَّدٍ المبكّرة . و النّظريّة مبنيّة تقريباً بالكامل على القُرْآن ، و قد اضطر البحث الحديث إلى أنْ يُوضح بالتأكيد أنّه بالكاد يمكن الارتكاز على القُرْآن من أجل محاولات التّفسير النّفسيِّ . علاوة على ذلك و كما أشار ماسينيون: " يمكننا أنْ نؤكد بأنَّ بعض الآيات الّتي لديها دلالة صُوفيّة بالنسبة لقراء محددين ، لا يمكن أن تكون سوى اقتباس مبتذل بالنسبة لمُحَمَّد ". (R.M.M., lix. 337)

إنّ محاضرات ريتشارد بِل أمام جامعة إدنبره ، " أصلُ الإِسْلاَمِ في بيئته المسِّيحيّة " ( لندن ، 1926 ) هي آخر مسعى من أجل تزويدنا بوجهة نظر لتأويل حياة مُحَمَّدٍ و تعاليمه . إنَّ عمل بِل هو مجرد دراسة تمهيديّة ؛ إذْ يعتمد كليّاً على القُرْآنِ ، و لا يأخذ بعين الاعتبار الرّواية التقليديّة أو السِّيرة ، و يرى أنّه بوسعنا من القُرْآن نفسه إيجاد المبادئ الرئيسة الّتي ستقودنا لاحقاً عبر متاهة الأحاديث . و يعتقد بِل بأنَّ الإشكاليّة تكمن في أنّه عشيّة مجيء مُحَمَّدٍ ، أصبحت الأفكار الدينيّة الجديدة تتخلّل الجزيرة العَرَبِيّة ، لحدٍ ما من جانب اليهود و بالأعم من قِبل المصادر المسِّيحيّة ، التي أتت الجزيرة العَرَبِيّة من ثلاثة اتجاهات : نزولاً من سوريا إلى شمال غرب ، من الرافدين إلى شمال شرق و من الأعلى من الأحباش عبر جنوب الجزيرة العَرَبِيّة . وأحد براهين ذلك أنّ معظم المعجم الدّينيّ مستعارٌ إمّا من الأثيوبيّة أو السّريانيّة ، و حتّى المصطلحات اليهوديّة ، و المصطلحات الدّينيّة الفارسيّة الّتي جاءت من خلال السريانية . و على هذا النحو فإن : اللّه ، القُرْآن ، الفُرْقَان ، صلوات ، جهنّم ، جنّة ، فِرْدَوْس ، زكاة ، دين ، الخ ، كلّ تلك الكلمات من هذا المنشإ ، و الشّخصيات البارزة الّتي تتحرك على مسرح القُرْآن : إبراهيم ، يونس ، موسى ، عيسى ، إدريس كلها من مصدرٍ سريانيٍّ .
لقد كان مُحَمَّدٌ على اتصال مع عالم الأفكار الدّينيّة الجديد ، بقدر ما تعرّبت قَبل زمانه ، لكنّه اتصل لاحقاً بالمصادر اليهوديّة والمسِّيحيّة نفسها ، و يدّعي بِل أنّ بإمكاننا رؤيته كيف كان يكتسب تدريجيّاً المعلومات أكثر فأكثر حول هذيْن الدينَيْن ، و بالأخصّ حول المسِّيحيّة ، و يطّور تعاليمه جنباً إلى جنب مع تزايد المعرفة . و على هذا النحو يمكننا أنْ نجد أنّ المفردات الدِّينيّة للسّور الأولى محددة بما يمكن أنْ يكون مستمداً من الشّعر المبكّر ، و الكلمات ، التي تطبعت في العَرَبِيّة قبل مجيئه . و نجد في هذه الحقبة القليل عن الأنبياء أو طقوس الأديان العظمى . بعد ذلك صار يتعلّم و يستعمل المصطلحات الدينيّة الجديدة المُقتَرضة من المصادر المسِّيحيّة و اليهوديّة ، و شرع يتحدث عن الأنبياء . و من الجلي أنّه لم يكن يعلم في ذلك الوقت بأنّ اليهود و المسِّيحيّين ليسوا على رؤية واحدة . و فيما بعد اكتشف ذلك و تغيّرت لغته بسرعة . و بالتالي لن يفسره بِل صوفيَّاً و لا مصاباً بالسَّكْتَة الدِّمَاغِيِّة ، و لا حالةً بَاثُولُوجِيّة من أي نوع . نعم سياسيُّ ، لكن من طبيعة دينيّة ، الّذي كان يَشُقٌّ على نفسه غياب الدِّين لدى شعبه ، و أعتقد أنَّ مهمته هي إعطاء العرب نظير الرسالة التي أعطاها الأنبياء للشعوب العظمية المحيطة .

بالتأكيد يوفر لنا هذا نقطةَ بدءٍ واعدةً ، أفضل من أيّ واحدة اُقترحت حتّى الآن كي تنطبق على الحقائق البادية من القُرْآن ، ويمكن أن يوفر لنا التطبيق المُوحى من جانب بِل مفتاحاً للعودة إلى بحثنا عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ ، على الأقلِّ طالما بوسعنا أن نتوقع ذلك.

إنَّ النتيجة الّتي تتبدى لنا من استعراضنا القصير هي أنّه ما زال علينا الانتظار بعد من أجل القيام ببحث إضافيٍّ في المصادر الأولى، وإجراء نقاش أبعد و ذلك للسّماح ببلورة رأي بحيث يتم وضع أُسس سليمة ، قبل أن ينجز شيء كثير فيما يخص بناء السِّيرَة . و من الجدير بالملاحظة ، إنّ الباحثين الأكثر إطلاعاً على المصادر العَرَبِيّة قد اقتربوا أكثر من فهم حياة تلك المرحلة ، باحثون أمثال مارغوليوث، هورغرونيه، لامِنس، كايتاني، وهم الأكثر حسماً تجاه دعاوي مُحَمَّد النّبويّة، و يتوجب الاعتراف بأنّه كلّما سار المرء أبعد في دراسته الخاصة للمصادر ، كلّما صار صعباً عليه تفادي استنتاجات هؤلاء الباحثين.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 22279