Skip to main content

بحثاً عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ - النَّقدُ المُتَّقدِّمُ

الصفحة 8 من 12: النَّقدُ المُتَّقدِّمُ

النَّقدُ المُتَّقدِّمُ

لقد واتتنا الفرصة آنفاً لملاحظة أنّه إلى جانب القُرْآن و " سِيَر " ابن إسحاق و ابن هشام ، و آخرين غيرهما ، لدينا مصدر مهم آخر لحياة مُحَمَّدٍ ألا و هو الأحاديث . ففي الواقع وجدنا أن " السِيَرَ " المُبكّرة مُؤسَّسَةٌ بشكلٍ كبيرٍ على الحديث ، و في الفترة ما بين فايل إلى موير تتابع الكتّاب الأوربيّون على فرضيّة أنه لو تمَّ تمحيص كميّة معيّنة منها ، فإنّه يمكن التوثّق من مجموعة مُعتبرة من الأحاديث الصّحيحة لغايات السِيِرَة . و الدّفْعَة الأوليّة لهذه الفرضيّة جاءت من إيغناتس غولدتسيهر في عمله " Muhammedanische Studien " ( هاله ، 1889 ، 1890 ) ـ . و حتّى بعد التّمحيص الدقيق نجد أنَّ أقدم الأحاديث تعود بنا القَهْقَرى إلى القرن الأوّل الهجريّ ، و أغلب هذه الأحاديث ضعيفة ، و تلونت بالتحيّز الثيوقراطيِّ ، و هي مختلطة بالمادة الأسطوريّة ، و محرّفة من أجل مصالح أُسرٍ محددة و أحزاب سياسيَّة .

لقد كان من المعتقد أنَّ النًّقد الدقيق مازال ناجحاً في إيجاد بعض الأُسس الأكيدة ، لكنَّ تطوير عمل غولدتسيهِر على يد كايتاني و هنري لامنس بدأ بإجبارنا على الوصول إلى النتيجة التّالية :

حتّى المعطيات الّتي اعتبرناه عموماً موضوعيّةً تقريباً ، تتكئ بشكلٍ رئيس على الرِّواية المتحيّزة . إنّ الأجيال الّتي عملت على ترجمة حياة النَّبِيّ كانت قصيّةً عن زمنه كي تملك المعطيات أو الأفكار الصّادقة ؛ و علاوة على ذلك ، فإنّه لم يكن نصب أعينهم هدف معرفة الماضي كما كان ، بل بناء صورة له كما يجب أنْ يكون ، حسب آرائهم . لقد قام رواة الأحاديث برسم لوحات لآيات القُرْآن التي تحتاج إلى شرح ، بحيث توافق رغباتهم أو مُثُلُهم العليا ، و لجماعاتهم الخاصّة ، أو حسب مجاز لامِنس المفضّل ، يملئون المساحات الخالية من خلال سيرورة القولبة التي تسمح للملاحظ النَّقديِّ بتبيان أصل كلِّ صورة .
( Hurgronje, "Muhammadanism," pp. 23, 24 ) .

كنا قد أشرنا سابقاً إلى عمل كايتاني . أما لامنس فإنَّه لم يقدم لنا بعد " سِيرَةً نبويّةً " خاصة به ، و التي ستبدو فتحاً لدى ظهورها . لقد أرضى نفسه لحدٍ بعيدٍ بإصدار عدد من الدِّراسات الأوّليّة ، الّتي أطلق عليها " دراسات في السِّيرَةِ " ، أسّس منهجه ، محصّ مادته ، و إذا جاز التعبير ، مهدّ الأرض التّي يجب أنْ يُبني عليها . يكتب : " إنَّ منهجنا سيكون بحثا أحاديا [ monographic ] أكثر من سِيَري . إنَّ الكلَّ ـ لو شـاهدنا قط نهايته ـ سـوف يشكّل ترجمة جديدة لحياة مُحَمَّدٍ " Notre procédé,sera donc plus monographique que biographique. L'ensemble - si nous devons en voir la fin - formera une nouvelle Vie de Mahomet. ( "Le Berceau de l'Islam," p. vi). . و لعلّ خير مقدمة إلى عمله هـو مقاله " القُرْآن و الحديث : كيف أُلِّفت سيرة مُحَمَّد " Koran et Tradition: comment fut com¬posée la vie de Mahomet. ( باريس ، 1910 ) ، حيث بيّن أن الأحاديث هي مجرد توسعات بعضها فوق بعض لجملة عبارات و كلمات في القُرْآن و ليس لها مستند مستقل ، و بالطبع ، لا يمكن استعمالها كمصادر مستقلّة من أجل غايات السيرة . و في سنة 1911 ظهرت في المجلة الأسيويّة دراسـة إضافيّة " عَصْرُ مُحَـمَّدٍ و التسلسل التَّاريِخيّ للسِّـيرَة " L' Age de Mahomet et la Chronologie de la Sira. ، و في السـَّنة التّالية الدِّراسـة المهمّة " Fatima et les Filles de Mahomet " ( روما ، 1912 ) . حيث يعالج في هذا العمل أسطورة فاطمةَ في الكتابات الإِسْلاَميّة ، و يظهر فيه بالتفصيل كيف أنه تطورت هذه السِّيرَة المفصّلة لفاطمة جرّاء تفشي الصراعات ، و المحاسدة ، و التناحر بين مذاهب الإِسْلاَمِ الأولى ، الّتي هي خليط من العناصر المتنافرة التي أغلبها محرّف و متضارب لحدٍ كبيرٍ . بيد أنّ هذا مجرّد حجر تمهيد للاستنتاج التّالي :

إنّ المنهج عينه ، و المبادئ المتماثلة تحكم التّفصيل الدّنيويّ للسِّيرَة . فحول النّواة ، الّتي يوفرها تفسير القُرْآنِ ، نُسجت النّظريّات السِّياسيِّة المتنافرة ، متراكبة بالأحلام الثيوقراطيّة ، و أفكار مدارس اللاّهوت و الفقه ، مع نزعات الدّوائر الزّهديّة و مطامح الصُّوفيّة .

إذاً ، كما يلاحظ غولدتسيهِر : " بأنَّ ما أثّر على المشاعر الدِينيِّة ليس الصورة التَّاريِخيّة . بل اُستبدل في مكانها الأسطورة التَّقيِّة ، مع مثالها بصدد مُحَمَّد . "

إنّ الدّراسات الإضافيّة المهمة لـ لامِنس هي : " هل كان مُحَمَّد صادقاً ؟ " ( باريس ، 1914 ) ؛ و " الجمهورية التّجاريّة لمَكًّةً حاولي السّنة 600 ميلادي " ( الإسكندرية ، 1910 ) ؛ " الحُكْمُ الثّلاثيّ لأبي بَكْرٍ ، و عُمَرَ و أبي عُبيدةَ " ( بيروت ، 1909 ) ؛ " الخليفة يزيد الأوّل " ( بيروت ، 1921 ) ؛ و " مدينـة الطّائف العَرَبِيـّة " ( بيـروت ، 1922 ) . على الدّارس أنْ يراجـع مقال دكتور بِكِر بصدد " Prinzip¬ielles zu Lammens' Sirastudien " في (Der Islam ) المجلد الرابع ، ص 263 ـ 69 .
إنّ السِّمة الغالبة في النّقدِ المتقدّم هي " العودة للقُرْآن " . كون الأساس من أجل سيرة نقديّة في الأحاديث عديم القيمة عمليّاً ؛ ففي القُرْآن فحسب بوسعنا القول إنّنا نحوز على أرضيّة صلبة تحت أقدامنا . كما وضعها سنوك هورغرونيه ، الّذي خطا بالنّقدِ المتقدّم هذا:

بينما يمكن أنْ تكون آخر الأحكام هنا و هناك الّتي فحصت الأحاديث الإِسْلاَمية بكثيرٍ من الشّك و الارتياب صحيحةً ؛ فإنّه بغض النّظر عن ذلك يبقى مؤكداً على ضوء بحثهم ، إنَّ منهج الفحص لا يمكن أنْ يبقى بدون تغيير . و يتأتى علينا السعي إلى جعل شروحنا للقُرْآن مستقلةً عن الأحاديث ، و إذْ كان ذلك مستحيلاً فيما يتعلّق بأجزاءٍ ، فإنّه يتوجب علينا الشّك في الشّروح ، مهما كانت مقبولةً .

إذا ما كان القُرْآنُ مصدرنا الرئيس ، فإنَّ الإشكالية التّالية هي التحقق كم ثابتة هي الأرضيّة الّتي يوفرها . لقد كان من المعتقد بأنّنا هنا في مأمن على الأقل ، بيد أنَّ الأعمال المتأخرة مثل أعمال كازانوفا و مينانا ، جعلت معتمديّة هذا المصدر محل شكٍ ، لكنْ هذه مسألة كبيرة للغاية من أجل تناولها في الوقت الرّاهن .

المِيثُولُوجِي
الصفحة
  • عدد الزيارات: 22287