Skip to main content

بحثاً عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ - السِيَرُ السِّيا - اقْتِصَادِيّة

الصفحة 7 من 12: السِيَرُ السِّيا - اقْتِصَادِيّة

السِيَرُ السِّيا - اقْتِصَادِيّة

نقطة بدءٍ مختلفة تماماً أوحت بها لباحثين آخرين الشروطُ السِّيَاسِيَّةُ و الاِجْتِمَاعيّةُ للجزيرة العَرَبِيّة زمن مُحَمَّدٍ . كانت الشروط الاجتماسيِّة للجزيرة العَرَبِيّة أيام ميعة صبا مُحَمَّد سيئةً . فلم تكن الجزيرة العَرَبِيّة في أحسن أوقاتها خصبةً ، و في ذلك العصر بالتحديد كانت جميع الأطراف الطّيبة واقعةً عمليّاً تحت سيطرة القوى الأجنبيّة ـ البيزنطييّن ، الفارسييّن ، و الأحباش ـ الّذين كانوا يدفعون القبائل العَرَبِيّة أبعد باتجاه صحاريهم . و لم يكن الاتصال مع حضارة هؤلاء النّاس الأكثر تطوراً بدون تأثيرٍ ، إذْ جعل العرب المُعْدِمين يرنون بعيونهم التواقة إلى الأشياء الأفضل الّتي بالكاد حلموا بها حتى الآن . فالقبائل نفسها كانت لا تهدأ و ساخطة ، و الظروف الاقْتِصَادِيّة كانت بائسة ، و كانوا جاهزين للتجمع تحت أي راية تعطيهم أملاً بالخلاص الوطنيِّ . لقد كان مُحَمَّدٌ هو من رفع الرّاية ، و عمل على جعلهم قوةً وطنيّةً قويّةً ، التي ستضمن الجزيرة العَرَبِيّة للعرب .
لعلَّ كتابَ الدّكتور مارغوليوث " مُحَمَّدٌ و نهوض الإِسْلاَم " ( لندن ، 1905 ) ، الدِّراسة الأكثر تألّقاً لحياة مُحَمَّدٍ قد ظهرت و هي تعكس هذه النظرة ، و التي يمكن رؤيتها أيضاً في نفس مقاليْ الكاتب بصدد مُحَمَّدٍ في الـ (Encyclop?dia Britannica ) ( الطبعة 11 ) ، و (Encyclopedia of Religion and Ethics ) ( المجلد الثامن ) . و حسـب هذه النّظرة كان مُحَمَّدٌ محباً لوطنه ، واعياً بشكل رائع لفرص التّاريخ ، و الّذي أنشأ منهجية وحدة العرب في مواجهة الخطر العام ، و وّظف فرص العصر الذهبية .

إنّ الرّجلَ الّذي بوسعه أنْ يُنظَّمَ قوةً مسلحةً يقودها نحو النّصر يمكن أنْ يظهر من خمول الذّكر إلى الأوتوقراطيّة في أيِّ مكانٍ . و لعلَّ كلَّ قرنٍ إِسْلاَميٍّ لديه حكايةٌ حول شخصياتٍ مشابهة . لقد نهضت سلالات العبّاسييّن و الفاطمييّن ، البُوَيهييّن ، السَّلجوقييّن ، و العُثمانييّن بنفس الطريقة ؛ و في أغلبها كان اللجوء إلى الدِّين يلعب دوراً مهماً . فنجاح المُؤسِّسِين كان يعود بشكل واضحٍ لا إلى الحقيقة الموضوعيّة للعقائدِ الّتي كانوا مرتبطين بها ، بل إلى مهارتهم بوصفهم مُنظِّمين و زعماءً عسكرييّن ... كانت كفايته [ أي مُحَمَّد ] في تقدير صفات الآخرين غيرَ عاديةٍ : و من هنا فإنَّ اختياره للتابعين بدا بعيداً عن الأخطاء . و في المقام الثّاني ، كان مطّلعاً بشكلٍ كاملٍ على نقاط ضعف العرب ، و قد استعملها إلى أفضليتها القصوى . إنَّ قصص نجاحاته كما يقدمها ابن إسحاق ، تشير إلى غياب تام للشّك الأخلاقيّ ؛ لكنّها تظهر مزيجاً من الصّبر و الشّجاعة و الحذر ؛ القدرة على القبض على الفرص ، و الارتياب بالإخلاص عندما لا يكون مدعوماً بالمصلحة ، و هذا يفسر لحدٍ كبيرٍ موثوقيّة تحقق النتائج .
(Encyclopedia of Religion and Ethics, vol. 7, p. 873 ) .

يمكن القول إنّه كان في المدينة لصَّاً بالضبط مثلما كان داود ، ملك إسرائيل ، في أيامه المبكرة . فعندما دخل مَكَّةَ ، دخلها بوصفه زعيماً سياسيّاً أكثر من كونه نبيّاً ، و قد اعترف المكّيون به بهذه الصفة . كانت الاعتبارات السِّيَاسِيَّة تملي تعاملاته مع اليهود و المسِّيحيّين إلى حدٍ كبير : لقد تعامل مع القبائل الوثنيّة بصفته عاهلاً و مجمل موقفه بالنسبة إلى الإمبراطوريّات المحيطة كان بصفته رجل دولة . " إنَّ الحقيقة الأساسيّة في فجر الإِسْلاَم هي أنَّه صار للحركةِ وزناً عندما كان مُؤسِّسُها قادراً على امتشاق السيف و الإمساك به بنجاح " . و لهذا عندما نسعى إلى تقدير أهميّة مُحَمَّدٍ ، لا يجب علينا أن نحاكمه كمصلح صُوفِيٍّ أو دينيٍّ على الرَّغم من أنّه يمكن أن يكون حائزاً على عناصر منهما بل بالأحرى كرجل دولة واجه مشاكل سياسيّة محدّدة و ملحّة بين أناسٍ غير متحضرين لحدٍ ما و في لحظةٍ حاسمةٍ من التّاريخ .
إنّ رؤيةً مشابهةً كان يحملها العالم الإيطالي ليون كايتاني مع أنَّه لسوء حظنا ليس بين أيدينا صورته الكاملة للنّبيِّ . إلاّ أنّنا نملك على كلِّ حالٍ الخطوط الأوليّة لمعالجته في المجلّد الأوّل و الثّاني من كتابه الضخم " Annali dell' Islam " ( ميلان ، 1905 ـ 1907 ) ، و في المجلّد الثّالثِ لمُؤلَّفِه " Studi di Storia Orientale " ( ميلان ، 1914 ) . يقترح كايتاني بأنَّ الانفجار العظيم ، الّذي قذف بالجيوش العَرَبِيّة نحو فتح الأراضي الخصبة المحيطة ، هو فقط آخر سلاسل الانفجارات المشابهة للشعوب السّاميّة ، التي كانت تلفظها الجزيرة العَرَبِيّة في الأزمنة التَّاريِخيّة ، بسبب من الضغط الاقْتِصَادِيّ النّاتج عن الجفاف التّدريجيّ في الجزيرة العَرَبِيّة . هكذا صار مُحَمَّد قائداً لهذه الحركة ، وفق الأفكار الدّينيّة في الجزيرة العَرَبِيّة آنذاك ، إضافةً إلى ذلك سِياسِيَّاً و نفعياً .

إنَّ طبعه المندفع ، المقترن بكفاية سِيَاسيِّة نادرةٍ لرجل دولةٍ و مرشد للقوم ، جعلت من مُحَمَّد نفعيّاً متفوقاً ، مفعماً بثقة شديدة بالذَّاتِ ، مكنته من أن يقذف بنفسه بدون تبصر مع خِفة نحو المغامرة حيث ورط أولئك الّذين تبعوه ، و قد أثملتهم و أغوتهم أخلاقيّة المعلم العليا .
("Annali." I.205). Si fatto carattere impulsivo associato con esimie qualita politiche di uomo di stato e di pasiore di popoli rese Maometto uomo eminentemente opportunista, il quale animato da una cieca, immensa fiducia in se, si getto alla cieca nelle piu ardite imprese e si trascino appresso tutti i seguaci, inebbriati e sodotti dalla superiorita morale del Maestro.

و بدوره كان لدى الباحث د. س. هـ . بِكِر هذه النظرة ، الّذي كان أحياناً محرراً لـ (Der Islam ) ، كتب في مُؤلَّفِهِ " الإِسْلاَم و المسِّيحيّة " ( لندن ، 1909 ، ص 29 ) :

إنّ المسلمين المتعصبين لحروب الفتح ، الّذين كان صيتهم ذائعاً وسط الأجيال المتأخرة ، آمنوا و إنْ بقليلْ من الاهتمام بالدِّين ، و أظهروا في بعض الأحيان تجاهلاً للمعتقدات الأساسيّة الّتي بالكاد يسعنا المغالاة بها . و الحقيقة مُؤلَّفَةٌ كاملاً من الدوافع الّتي كانت تدفع الهجرات العَرَبِيّة . فهذه الدوافع كانت اقْتِصَادِيّةً ، و الدّين الجديد لم يكن أكثر من مطلب جماعة لتوحيد القوّة ، بالرَّغم من أنه ليس من سبب للافتراض بأنَّ لا قوة أخلاق حقيقيّة في حياة مُحَمَّدٍ و معاصريه المباشرين .

تطورٌ مثيرٌ للاهتمام ضمن هذا الجزء هو نظريّة البروفيسور أوبِرت غريم . حيث أصدر هذا المؤلِّفُ كتابَيْن حول مُحَمَّدٍ . أولهما " مُحَمَّد " ( ميونستِر ، 1892 ) ساعياً فيه إلى تفسير تطور الإِسْلاَم بوصفه ظاهرةً اشتراكيَّةً . فبعد أنْ درس و رفض نظرية شبرِنغِر بأنّ الحنيفيّة مصدرُ الإِسْلاَمِ الأصليِّ ، أشار إلى أنّ الإِسْلاَمَ يمكن أن يُفسر ببساطة بوصفه اشتراكيّاً أكثر منه منظومة دينيَّة .

إنَّ الشروط الّتي اعتدنا على رؤية الحركات الاشتراكيَّة تظهر فيها في التَّاريخ ، كانت في مَكَّةَ إِبَّان حياةِ مُحَمَّد . إذْ كانت شروط المعارضة داخل الهيئة الاِجْتِمَاعيّة قد أينعت إلى النقطة الّتي صارت فيها القطيعة وشيكةً . حيث طبقة غنيّة تملك كلَّ القُوّة بيديها ، تتسيّد على طبقة كبيرة من المُعْوِزِين الّذين يعانون من ضغط الربا العديم الرحمة . ضد الطّبقة الأولى اندفع القُرْآنُ في اتهاماته المحقة بغزارة ، فيما يتعلّق بأموالهم ، و بصدد المُطَفِّفين الّذين يُخسرون النّاس أوزانهم و مكايِيْلَهم . تبذيرهم الأحمق للثّروة من جهة ، و التّراكم المستمر بشكل حريص من جهة أخرى ، و أخيراً عدم رضاهم ، على الرَّغم من الوَفْرَةِ . و في الجانب الآخر ، كان الشاهد مؤلماً كيف أنه رُفض تقديم الصدقات إلى المساكين ، و السَّائلين ، و كيف يُحرم اليتامى من الميراث ، و العبيد يناضلون عبثاً للحرية و الانْعِتاق . و من أجل وضع نهاية لهذه الظروف المعادية ، تحت ظل العدالة التكافليّة ، قام مُحَمَّدٌ ، الّذي كان قد اختبر بنفسه قسوة حرمان اليتامى الفقراء في أيام نشأته ـ مع أنّه صار لاحقاً من الطّبقة ذات الأملاك ـ بوضع تشريع صارم يوجب على كلِّ فردٍ دفع مقدار معلوم لدعم المَحْرُومِين . و بهذه الطريقة فإنَّ المساواة ستتأسَّس سلميّاً ، باختلاف كليٍّ عن جميع المساعي الاشتراكيّة للأزمنة القديمة ، التي تُجلي ميلاً قويّاً للتحوّلات القسريّة في العلاقات الاِجْتِمَاعيّة .

بالكاد وجدت هذه الأطروحة الجريئة قبولاً ، و لدى ظهورها تعرَّضت لنقد لاذعٍ من قبل سنوك هورغرونيه Revue de l'Histoire des Religions, volume 30, pp. 48 ff.، الّذي لاحظ كِلاً من عدم صحة عمل غريم ، الّذي يظهر محدوديات علمه ؛ و كذلك عدم يقينيّة الأُسس الّتي بنى عليها نظريته .
للأسف فإنّ البروفيسور غريم ذو سمعة بالنّظريات الجامحة ، كما تشهد عليه مطابقته الجديدة لبعض علامات الأجواء على الأحجار ـ كما وصفها بيتري ـ في سيناء ، بوصفها خطَ يدٍ لموسى بالذات ، وحتّى لو كانت نظريته تملك قاعدةً سليمةً ، فإنَّ من المستبعد أنْ يكون الدَّافع الاشتراكيُّ قادراً على تفسير كلَّ الوقائع المأخوذة بعين الدَّرسِ .

النَّقدُ المُتَّقدِّمُ
الصفحة
  • عدد الزيارات: 22299