هل يعتبر القرآن إعجازه معجزة له؟ - الجدل في أزليّة القرآن
رابعا : الجدل في أزليّة القرآن
ويتعلّق بالقول باعجاز القرآن معجزة إلهية ، الجدل الشهير : هل القرآن ، بصفته كلام الله ، مخلوق أم غير مخلوق ، محدث أم قديم في ذات الله ؟
يقولون : كلام الله صفة ذاتية في الله ؛ والقرآن هو كلام الله ؛ فالقرآن إذن صفة ذاتية في الله ، فهو قديم غير مخلوق .
وهذا القياس يشتمل على مغالطة أساسية : بين عمل الله في ذاته ، وعم الله خارجا عن ذاته . فالقدرة على الخلق صفة ذاتية في الله ؛ أمّا الخلق فهو عمل في خارج الله . وكذلك كلام الله ؛ فهو بكونه صفة ذاتية فهو في ذات الله ؛ أمّا التنزيل فهو عمل في خارج الله ، وكما أن الخلق بكلام الله وأمره محدث ، كذلك تنزيل كلام الله ، أو كلام الله المنزل خارج الله ، محدث . فالخلق والتنزيل من صفات الله وأعماله : فمن حيث القدرة الذاتية والصفة الذاتية هما من ذات الله ؛ أما من حيث العمل خارج الذات الإلهية فالتنزيل محدث كالخلق ؛ وكلام الله المنزل محدث كأمر الله في الخلق .
فلا يكون القرآن – ولا غيره من الكتب المنزلة – بصفته كلام الله ، غير مخلوق ، ومعجزًا بذاته كصفات الله الذاتية . والاعتماد على اعجاز القرآن بصفته كلام الله منطق معكوس . فكلام الله على نوعين : كلام الله الذاتي ، وهو صفة القديم ؛ وكلام الله المنزل وهو محدث كالخلق .
نشأت هذه المسألة من جدال المسيحيين للمسلمين في المسيح الذي يصفه الانجيل (يوحنا 1:1) والقرآن (النساء 171) انه "كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه" . يقولون : إن السيد المسيح ، لا بصفته عيسى ، ابن مريم ، بل بصفته "كلمة الله وروح منه" هو قديم قائم في ذات الله ، من ذات الله ، كنطقه الذاتي في ذاته . فردّ المسلمون أن القرآن هو أيضا كلام الله ، فهو قديم في القديم وغير مخلوق . وفاتهم أن المسيح ، بصفته "كلمة الله" ؛ ذات ؛ وأن كلام الله شئ . وفاتهم الفرق الجوهري بين كلام الله في ذاته ، وكلام الله في التنزيل : فكلام الله المنزل هو غير ذات الله ؛ وكلام الله الذاتي هو ذاته ، أو من ذاته في ذاته ، فلا هو عين الذات ولا هو غيرها .
ولم يكن احتجاج المعتزلة على أهل السنة والجماعة كفرًا ، ولا سَخَفًا . نقل الجاحظ استجواب الإمام أحمد بن حنبل ، بحضرة المعتصم : "أن أحمد بن أبي داود قال له :
أليس لا شئ إلاّ قديم أو حديث ؟
قال : أو ليس لا قديم إلاّ الله ؟
قال : فالقرآن اذن حديث !
وسُئل جعفر بن محمد عن القرآن : "أخالق أم مخلوق؟"
إن القديم وغير المخلوق هو من ذات الله ، في ذات الله ؛ فلا ينفصل عن ذات الله في التنزيل ، كما ينفصل كلام الله المنزل . وكلام الله المنزل ليس كلام الله القديم في ذاته تعالى ليكون غير مخلوق ومعجزا في ذاته .
إن قضية قدم القرآن أم حدوثه مسألة طارئة على البحث في إعجاز القرآن بصفته كلام الله . واعتبار كلام الله المنزل صورة لكلام الله الذاتي النفسي لاثبات الاعجاز الذاتي لكلام الله المنزل ، هو ما أورد القوم ذلك المورد المشبوه . فليس كلام الله المنزل هو عين
كلام الله في ذاته ، من ذاته ، لذاته . فكما أن الخلق هو عمل الخالق وليس الخالق ، فكذلك كلام الله المنزل هو عمل الله وليس الله . فلا مجال لإثبات الاعجاز الذاتي لكلام الله المنزل ، لأنه كلام الله ، فهو يأتينا بواسطة بشر ، وبلغة البشر ؛ وما هو بشري في جهة من جهاته لا يلزمه اعجاز الله في ذاته البشرية . فلا بدّ من برهان خارج عن ذاته يدل على أنه من الله . ومتى ثبت أنه من الله ثبتت قدسيته ، ودانت له النفوس والعقول والقلوب والأجسام . فقبل التقرير بأن القرآن كلام اله ، فهو معجز في ذاته ، يجب البرهان على أنه كلام الله ، بإثبات صدق النبي الذي ينقله عن الله . وهذا عمل المعجزة ، لا صفة الاعجاز في ذاته . فالأساس الثاني لاعجاز القرآن كمعجزة متهافت مشبوه .
- عدد الزيارات: 24144