لا تحريف في التوراة والإنجيل - الصفحة الرابعة
وعدا ذلك فإنه نبغ في العالم مؤرخون عظماء بين النصارى واليهود والمسلمين في عصر محمد وقبله وبعده وسجلوا في مؤلفاتهم حوادث الزمان, وباطلاعنا على توراتهم لم نر أثراً في تاريخ أحد منهم يدل على تواطؤ النصارى واليهود على حذف شيء من الأسفار المقدسة يتعلق بمحمد ولا بغير محمد,
وإن فرضنا أنه وُجد بين النصارى أو اليهود طائفة انتزعت مخافة الله من قلوبهم والحياء من الناس? بحيث لم يعودوا يبالون بعذاب الله ولا بملام الناس? وشرعوا يحذفون خبر محمد من التوراة والإنجيل? فإنهم يجدون ذلك ضرباً من المحال بسبب أن الديانة المسيحية وكتبها قبل الهجرة كانت قد انتشرت انتشاراً عظيماً? حتى أن سكان آسيا الصغرى وسوريا واليونان ومصر والحبشة وشمالي أفريقيا وإيطاليا قد اعترفت بالمسيح, بل وأكثر من ذلك فإن كثيرين في جزيرة العرب وبلاد فارس والأرمن والقوقاز والهند وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وانكلترا وألمانيا قد قبلوا المسيحية أيضاً? ولهذه البلاد لغات مختلفة تُرجم الكتاب إلى كثير منها،فتُرجم إلى الطليانية والأرمنية والأشورية والقبطية والكوشية والقوطية والقوقازية, وعدا هذه كانت التوراة موجودة في الأصل العبراني والعهد الجديد موجوداً في الأصل اليوناني? وتُرجمت التوراة كلها إلى اليونانية? وسُميت الترجمة السبعينية? وتُرجم كثير منها إلى الآرامية من قبل ميلاد المسيح,
ولا يخفى على أحد أن اليهود متفرقون في أنحاء العالم وبالأكثر في الجهات المشار إليها? وهم منقسمون إلى طوائف مختلفة, وكذلك المسيحيون منقسمون إلى طوائف كثيرة متضادة? فلا تقدر إحدى طوائف اليهود أو النصارى أن تُقدم على هذا المشروع خشية من تشهير الطوائف الأخرى بها, وعلى ما تقدم مهما يكن المرء أحمق أو مختل العقل فلا يبلغ منه الحمق والخلل حداً يتصور له معه إمكانية اتفاق اليهود والنصارى? هؤلاء مع اختلاف طوائفهم? وأولئك مع اختلاف طوائفهم وتوحيد رأيهم على تغيير أسفارهم الإلهية, وإن فرضنا المستحيل وقلنا بل اتفقوا كلهم وغيروا كتابهم وجردوا صحائفه من السيرة المحمدية? فماذا عسانا نقول عن النسخ التي اكتُشفت بعد عصر محمد ويرجع تاريخها إلى ما قبله ? فمن يا ترى غيَّر هذه أيضاً وهي تحت الأرض مخفية مع الآثار القديمة, هل انضمت جماعة الجن إلى حزب المتواطئين ?ثم أن للمسيحيين مؤلفات دينية تفوق الحصر تشتمل على اقتباسات في مواضيع مختلفة من الكتاب المقدس? فهل راجع المتواطئون هذه المؤلفات أيضاً ونقحوها من سيرة النبي العربي ?
والأغرب من ذلك كله أنه بينما يزعم المسلمون أننا غيَّرنا كتابنا وحذفنا منه البراهين على رسالة نبيهم? يحاول علماؤهم الراسخون أن يثبتوا وجود هذه البراهين في كتابنا اليوم, فإن صدق علماؤهم? وكان في الكتاب براهين على ذكر محمد فلماذا إذاً تتهموننا بأننا حذفناها ?أليس من عزم الأمور أن تستقروا على رأي واحد ?
ومن أمثلة براهينهم التي يوردونها في الكتاب على البشارة بنبيهم ما وعد به المسيح تلاميذه من إرسال الفارقليط كما جاء في بشارة يوحنا 16 :7 لا يسلم المسيحيون أن الفارقليط هو محمد? إلا أن إبقاء هذه الآية في قلب الإنجيل لليوم دليل على أنه الم تُحذف منه, ثم نقول لو كان المسيحيون يريدون أن يحذفوا الآيات الدالة على نبوة محمد من كتابهم لكان الأولى بهم أن يحذفوا هذه الآية? لأنها هي الآية الوحيدة التي نبه إليها القرآن وعينها بالحصر وقال إنها تشير إلى نبوة محمد? حيث يقول وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ - سورة الصف 61 :6 - , وكما أن محمداً ادعى أنه الفارقليط الذي وعد به المسيح بإرساله? ادّعى من قبله هذه الدعوى عينها ماني الفارسي - كما يعلم ذوو الاطلاع - وبنى دعواه على آية المسيح المشار إليها? وتبعه بعض المسيحيين, ولما اتضح على توالي الأيام أنه دجال واضمحلت شيعته? لم يحذف المسيحيون هذه الآية التي استعان بها على ضلالته, وهاك هي موجودة في الإنجيل إلى اليوم,
ثم أن اليهود اطلعوا على آيات كثيرة في توراتهم تدل على المسيح دلالة واضحة? واحتج بها المسيحيون عليهم احتجاجا لم يجدوا معه سبيلاً إلى التخلص من الالتزام بالحق, وعداوتهم للمسيح أشهر من نار على علم? ولكم لم يحملهم هذا كله على تحريف آية واحدة من الآيات الدالة على المسيح مع كونها تلصق بهم أعظم جريمة وتقضي عليهم قضاء مريعاً, فلو كان اليهود حرفوا التوراة في شأن محمد ?لكان الأولى بهم أن يحرفوها في شأن المسيح ويحذفوا منها هذه البينات الراهنات - تكوين 49 :10 وتثنية 18 : 15 و18 ومزامير 22 :14-18 وإشعياء 7 :14 و9 :6 و7 و11 :1-10 و52 :13 الخ وص 53 كله ودانيال 8 :13 و14 و9 :24-27 وميخا 5 :2 وزكريا 12 :10 - قابل هذه النصوص الجلية بما ورد في الإنجيل - لوقا 24 :25-27 - ,
وفي التوراة آيات تتعلق بمسألة أخرى يود اليهود لو لم تكن موجودة فيها? وهي تلك التي تشهر بفظائعهم وجرائمهم المتناهية في القبح, فلو كانوا حرفوا توراتهم بخصوص محمد فما كان أجدر بهم أن يحذفوا كل ما يشين سمعتهم ويلصق بهم شر الفعال!
أمرهم الله أن يحافظوا على شريعة التوراة - يشوع 1 :7 - وأن لا ينقصوا منها ولا يزيدوا عليها - تثنية 4 :2 و12 :32 - فعملاً بالوصية حافظ اليهود على توراتهم? وخوفاً من أن تسقط منها كلمة أو حرف أحصوا كلمات كل سفر من أسفارها? بل أحصوها حروفاً وقيدوا الاحصاءات في كتبهم الدينية ليرجعوا إليها عند اللزوم, وليكن معلوماً أن نسخة التوراة المتداولة بين اليهود هي عين النسخة المتداولة بين النصارى? وكلتاهما تُطبعان في مطبعة واحدة,
ولئلا يظن بعضهم أنه ربما غيَّر اليهود توراتهم قبل المسيح? ونحن أخذناها عنهم مغيَّرة فصارت نسختهم ونسختنا واحدة? أقول إن القرآن كفانا مؤونة هذا الاعتراض? لأنه يشهد بأن المسيح جاء مصدقا لما معهم من التوراة, ثم أنه لا المسيح ولا رسله اتهموا اليهود بتهمة التحريف? وهاكم صحائف الإنجيل راجعوها تجدوها بيضاء نقية من هذه التهمة? في حين أنها شهرت بخطاياهم في غير هذه المسألة? بل يشهد الإنجيل للتوراة بأنها موحى بها من الله? وأنها باقية على أصلها? وبحرص المسيحيين على قرائتها والعمل بها, ومن ذلك الآيات الآتية في الإنجيل - متى 5 :17 و18 و22 :31 و32 ومرقس 7 :6-10 ولوقا 11 :29-32 و24 :25-27 ويوحنا 5 :39 و45-47 و2 تيموثاوس 3 :16 - , من هذه الآيات البينة يتضح أنه في عصر المسيح ورسله قبلت التوراة لديهم كتاباً موحى به من الله ليس بها مساس من مظنة التحريف والتغيير? لأنه لو حرفها اليهود لكان المسيح وبَّخهم علانية على هذا الشر العظيم? ولأشار بلا شك إلى مواضع التحريف وأصلحها لتبقى صالحة للاستعمال في كنيسته,
وهذه النظرية ذاتها تثبت عدم ضياع التوراة وعدم تحريفها عند خراب أورشليم في زمن بختنصر والأسر البابلي, ولو حدث شيء لكان المسيح بيَّن الحقيقة,
إن بعض كتاب المسلمين يدعون أنه في وسعهم أن يثبتوا وقوع التحريف عمداً في التوراة? ويعينوا الآيات المحرفة? ومنها على ما يدّعون الآية الواردة في سفر التثنية 27 :4 ففي النسخة السامرية مكتوب جبل جرزيم وفي العبرانية جبل عيبال ولكن الحقيقة هيأنه ليست النسخة العبرانية وحدها المكتوب فيها جبل عيبال بل في كل التراجم القديمة كالترجمة السبعينية واللاتينية الدارجة والسريانية والباشطا والأرمنية والحبشية,
وعليه فالعبارة الأصلية جبل عيبال كما في الأصل العبري لا جبل جرزيم كما في النسخة السامرية التي حرفها السامريون لرغبتهم الخصوصية في الجبل الذي سموه بهذا الاسم, ومع كونهم حرفوا نسختهم في هذه الكلمة انحصر التحريف فيها? ولم يتعدَّ إلى النسخ الأخرى المعتمدة عند طوائف اليهود وطوائف النصارى, وهناك احتمال آخر في هذه المسألة? فربما ظنَّ الناسخ الذي نقل النسخة السامرية عن العبرانية أن الكاتب الأول كتب جبل عيبال سهواً عوض جبل جرزيم لمناسبة ما ورد في عدد 12 من ذلك الأصحاح? ما مؤداه أن بعضاً من الأسباط الاثني عشر يقفون على جبل جرزيم ويباركون الشعب والبعض الآخر يقفون على جبل عيبال وينطقون باللعنات على من يرتكب تلك المعاصي المذكورة هناك? ويقول الشعب آمين , فمن المحتمل أن كاتب النسخة السامرية ظن المقصود جبل البركات لا جبل اللعنات, وعلى كل حال فإن السامريين لم يقدروا أن يعمموا هذا الخطأ أو التحريف إلا في دائرتهم الخصوصية - إن صح أنه تحريف!! - ,
- عدد الزيارات: 37766