لا تحريف في التوراة والإنجيل - الصفحة الأولى
وعندنا دليل آخر ورد في كتاب عبري يُدعى برقي أبهوث كُتب في القرن الثاني للميلاد ما معناه نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء? واستودعها موسى إلى يشوع? وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل? وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء? وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم مجمع اليهود الأعظم , ويُروى أن هذا المجمع كان مؤلفاً من علماء اليهود وبدأ بتأسيسه عزرا? وكان الغرض منه المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب, وورد في التلمود - كتاب تقليد اليهود - أنه بعد السبي البابلي الذي نحن في صدده أعاد المجمع العظيم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم? وأشار إلى ذلك كتاب برقي أبهوث بما معناه أن ذلك المجمع وضع ثلاثة وصايا كشعائر مقدسة الأولى - احترس في القضاء - الثانية علِّم كثيرين - الثالثة كن حصناً منيعاللتوراة, وهذه الوصية الأخيرة أوجبت على اليهود أن يبذلوا قصارى جهدهم في صيانة التوراة سالمة من كل ما يعرض لها? وقد قاموا بهذا المهمة خير قيام, وما من أمة بالغت في العناية بكتابها المقدس كما بالغت الأمة اليهودية بتوراتها? فقد أحصوا عدد كلماتها وحروفها, وأذكر هنا قولاً مأثوراً قاله أحد أكابر هذا المجمع يدل على مبلغ عنايتهم بالتوراة? وإلى أي حد رفعوا مقامها, ورد في برقي أبهوث قوله إن سمعان العادل - أحد خلفاء المجمع - كان يقول : العالم قائم على ثلاثة أعمدة التوراة والعبادة والعمل الصالح , بمثل هذا الاهتمام والتدقيق تداولت التوراة بين اليهود من السلف إلى الخلف جيلاً بعد جيل في لغتها الأصلية وهي العبرية والآرامية بكل اعتناء وتدقيق, ومن الأدلة المعتبرة على ما نحن بصدده تعدد قراءات التوراة? أي وجود اختلافات لفظية مع وحدة المعنى, أليس هذا برهاناً على أنه لم يكتبها شخص واحد? ولا كُتبت في عصر واحد, ثم أنه يوجد فيها ما يشبه التناقض في أخبار بعض الوقائع والمسائل التي ليس لها مساس في الجوهر? وهو بالحقيقة ليس بتناقض, فوجود شيء من هذا القبيل في أسفار التوراة مع سكوت اليهود عنه وعدم تجاسرهم على تسويته? لدليل قوي على تمسكهم بالمتون الأصلية واستحفاظهم عليها? مهما يكن من أمرها, وتظهر قوة هذا الدليل بأكثر وضوح من المثال الآتي نقلاً عن القرآن, ورد في سورة آل عمران 3 :55 قوله إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وورد في سورة النساء 4 :159 قوله وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قد ارتاب بعضهم في كون الضمير الأخير عائد إلى المسيح? ولكن لا يمكن أن يرتاب في تصريح القرآن بموت المسيح الوارد في سورة مريم 19 :33 وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً فهذا كله يظهر أنه منقوض بما ورد في سورة النساء 4 :157 وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ لأنه في المواضع الأولى يثبت موته وفي الموضع الأخير ينفيه, فوجود التناقض الظاهري في متن القرآن دليل معتبر على أن المسلمين لم يمسوه بسوء وإلا لكانوا من باب أولى أزالوا شبه التناقض هذا وخصوصاً في آية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إذ قُرئت قبل موتهم وهذه القراءة يزول معها الالتباس? فما كان أيسر عليهم أن يثبتوا القراءة الثانية محل الأولى لكنهم لم يفعلوا حرصاً على الأصل, هكذا يدل وجود شبه التناقض الواقع في أسفار التوراة على أمانة أهلها,
قد كتب بعض المؤلفين المسلمين جدولاً طويلاً من المناقضات الواردة في الكتاب المقدس وزعموا أنها مناقضات حقيقية? وهي تناقضات ظاهرية فقط كمثل التي نقلناها هنا عن القرآن? وقد وفق بين كثير منها العلماء المحققون, والتي لم يهتدوا إلى التوفيق بينها فصعوبتها قائمة على عدم معرفتهم كل ظروفها, ووجود هذه الاختلافات في أسفار التوراة دليل على عظمة اعتناء اليهود بالمحافظة على الأصل لأنهم لم يتخذوا وسيلة لإزالة هذا الخلاف ويكفوا نفوسهم مؤونة احتجاجات المعارضين الذين لا يفتأون ينقبون في الكتاب? لا توصل المعرفة الله? بل ليظفروا باحتجاج جديد? ويُظهروا براعتهم للناس,ولنتأمل الآن باختصار فيما إذا كانت أسفار العهد القديم أولاً وأسفار العهد الجديد ثانياً? المتداولة اليوم? هي بذاتها التي كانت في زمن محمد? وإليها أشار القرآن فنقول :
إنه يوجد لدينا جملة جداول محصاة فيها أسفار العهد القديم يرجع تاريخها إلى ما قبل محمد? وهي موافقة لتوراة العصر الحاضر تمام الموافقة, قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي في تاريخه الذي كتبه سنة 90 ميلادية لا يوجد بيننا معشر اليهود عشرات الألوف من الكتب المتناقضة? بل يوجد اثنان وعشرون سفراً نؤمن أنها موحى بها من الله محتوية على تاريخ كل العصور? منها خمسة أسفار - سفر التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية - لموسى? وتشتمل على شريعة الله وتاريخ الجنس البشري من ابتداء العالم إلى موته? أي نحو ثلاثة آلاف سنة تقريباً, ومن ذلك الوقت إلى حكم الملك أرتزركسيس الذي خلف زركسيس مدون في ثلاثة عشر سفراً - سفر يشوع والقضاة مع راعوث وصموئيل والملوك وأخبار الأيام وعزرا مع نحميا, وأستير وأيوب والاثنا عشر سفراللأنبياء الصغار وإشعياء وإرميا مع مراثيه وحزقيال ودانيال - , والأربعة الأسفار الباقية - المزامير والأمثال, والجامعة ونشيد الأنشاد - لتسبيح الله وتهذيب الأخلاق , وقدَّم لنا مجمع جامنيه الذي عُقد سنة 90 ميلادية قائمة هذه الأسفار بعينها? وقرر مجمع لادوكية أنها اثنان وعشرون سفراً? ثم في القرون المتأخرة جزأوا بعض هذه الأسفار لسهولة المراجعة,
ويمكننا أن نقدّر ونعين تاريخ التجزئة بالضبط, مثلاً في نسخة بطرسبرج التي كُتبت باللغة العبرية سنة 916 م لا تزال فيها الأسفار الصغار للأنبياء الاثني عشر - هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخي - متضمنة في كتاب كل سفر كان يعتبر أصحاحاً? محصية فيه أعداد الآيات, أما تقسيم كل من سفر صموئيل والملوك والأخبار إلى جزئين وفصل عزرا عن نحميا فقد تم لأول مرة في طبعة العهد القديم العبرية في البندقية سنة 1516 و1517 ميلادية, يقول يوسيفوس المؤرخ إن الكتب الأخرى التي لا يساوون بينها وبين الاثنين والعشرين سفراً القانونية في الوثوق بأقوالها وقد ترجموا الكل إلى اليونانية? ومع أن هذه الأسفار الغير القانونية كُتبت وتُرجمت من قبل المسيح بكل اعتناء وتدقيق? لم ينزلوها منزلة الأسفار القانونية ولا عدّوها معها, وتمت هذه الترجمة بين سنة 247 و385 قبل المسيح في مصر بناء على طلب بطليموس الثاني الملقب فيلادلفيوس , ويظن البعض أنها بين سنة 200 و250 قبل المسيح ويرجحون الرأي الثاني? وليس هذا ذا بال, وتُدعى هذه الترجمة بالسبعينية نسبة إلى عدد الذين ترجموها? فإنهم كانوا سبعين عالماً من علماء اليهود? وهي أقوم ترجمة للتوراة في الوجود,
- عدد الزيارات: 37778